فـي الزقـاق … العديد من الذِّكريات و الأحداث التي لا يمكن للمرء نسيانها خصوصاً في مرحلة الصبا , فلكل زقاق قصه و حكاية و رواية , يرويها من عاشها بحلوها و مرها في تلك الليالي البهية تحت اضواء الأتاريك القديمة. وفي الزقاق تجد عشرات البيوت التاريخية المتكدسة وكأنهم بنيان مرصوص يساند بعضهم البعض كتفاً بكتف لكي تقف شامخة مرحبةً بأهلها. و في الزقاق حركة مستمرة تخبرك بأنه لا مكان للسكون، أصواتً كثيرة تبدأ مع بزوغ الفجر، العمال يذهبون إلى أعمالهم يرافقهم زقزقة العصافير، وبيوت تودع ابنائها إلى مدارسهم ، وصوت الجارة تنادي جارتها لاحتساء كوب قهوة او شاي صباحي يصاحبه حديث وفضفضه وتناول أهم واجبات اليوم مثل نوع الطعام ، زيارة السوق و أشغال البيت.
و في حارة البحر العريقة يكمن زقاق النمر أحد أقدم أزقة مدينة جدة التاريخية منذ أن كانت تلك المنطقة من الحارة تسمى بحارة اليمن. فنظراً لسكن عائلة آل النمر في تلك المنطقة منذ القدم أكتسب ذلك الزقاق مسماه. و يعد زقاق النمر الزقاق الوحيد في حارة البحر المسمى بأسم أحد عوائل الحارة , فغالبية أزقة الحارة تم تسميتها بعدة مسميات منها ما ارتبط بالبحر مثل الأدوات أو المهن البحريه أو حتى الخير القادم من البحر مثل بعض أنواع الأسماك. فعلى سبيل المثال يوجد في حارة البحر الأزقة التالية: الأسنوي , المشورة , البحر , الموج , البهار , الناجل , الهامور , المراكبي , الحواته , الصواري , الصناره , الصخوه وغيره الكثير. وقد وثقت عنها بإيضاح في كتابي المعنون بــ حارة البحر – موطن الآباء و الأجداد. ومما أذكره بأن أزقة الحارة كانت تضاء يومياً قرب وقت المغرب , وفي ذلك الوقت كان قد تم تبليط كامل ازقة وبرحات جدة التاريخية وتم تركيب عواميد الأنارة اللتي تشبه الأتاريك القديمة ولكنها كانت تعمل بالكهرباء.
و قد عايشت في زقاق النمر العديد من الذكريات الجميلة التي مازالت راسخة في الذاكرة. فأذكر و انا في الخامسة او السادسة من عمري كنت اشاهد من روشان بيتنا ابناء الحارة الأكبر سناً يلعبون كرة القدم في ذلك الزقاق الصغير الذي كنت اراه في ذلك الوقت كبير جداً وكأنه ملعب متكامل. فكانت متعتي اليومية هي مشاهدتهم يلعبون تلك الكرة ويركضون خلفها و احياناً كانوا يتشاجرون , فلم اكن اعرف قوانينها سوا ان الحماس الظاهر عليهم كان يجذبني للفرجه. حتى أراد الله وتقدمت في السن واصبحت أحد التشكيلة الأساسية بينهم , وكنا في حالة ازدياد عدد اللاعبين ننتقل للعب الكرة على البرحة المقابل لبيتنا (برحة النمر) ولكن كان اللعب هناك خطيراً نوعاً ما , حيث أنه اصحاب المحلات التجارية كانوا يقطعون الكرة بالسكين اذا اصابت محلاتهم عن طريق الخطأ وكانوا يحذرونا كثيراً بأن لا نلعب في تلك البرحة حتى لا نكسر زجاج احد المحلات او نلحق ببضائعهم الضرر. ولكننا في الواقع لم نكن نأبه لذلك , فكان اللعب والمتعة تعمي بصائرنا.
لم يكن ذلك الزقاق مجرد زقاق عايدي , و لأنه أقرب زقاق الى باب بيتنا الكبير كانت جلستي ولعبي فيه , وخصوصاً أنه كان يحتوي على مركن زرع جميل , كنت استخدمه للعب فيه و لتخبئه جميع العابي مثل البراجون , السيارات , المدوان وغيرها. و لأن أزقة جدة القديمة عندما تم تبليطها في عهد المهندس الفارسي بالرخام الفاخر كان موظفي البلديه يقومون بغسل البرحات والأزقة بالماء والصابون اسبوعياً , فكان ذلك سبب كافي لي بأن استلقي عند مركن الزرع الخاص بي في الزقاق اما للراحه او للعب. وفي أحد الأيام رآني والدي حفظة الله وانا مستلقي ومهموم باللعب , فوبخني ونهاني عن ذلك. فكنت يومياً أعود الى البيت وملابسي يملأها الأوساخ والسواد. ليس ذلك فحسب , بل كانت متعتي في اللعب في الحارة حافي القدمين , فكنت اعود الى البيت وقدماي لونهما مثل الفحم من كثرة اللبع والجري وكانت والدتي حفظها الله تغضب مني وتوبخني بسبب ذلك التصرف. فسبحان الله رغم انه تصرف خاطئ ولكن له ذكريات جميله حينما نتذكر تلك المتعة وأننا لم نفعله بقصد الإهمال و انما بسبب صغر سننا ومجاراة لأبناء الحارة.
و بسبب براءة الطفولة , في احدى المرات كان والدي جالساً في مركازه امام البيت ورآني العب حافياً , فناداني واخبرني بأن اصعد الى البيت وان البس الحذاء اذا اردت مواصلة اللعب , ولأنني كنت على عجلة من امري ولا ارغب بأن تفوتني المباراة دخلت الى دهليز البيت وانتظرت به لعدة ثواني ومن ثم خرجت اليه وقلت له “خلاص يا ابويا لبست الجزمه” فنظر الي ورآني حافي القدمين فضحك حفظه الله وقال لي “مالبست ياكذاب , اطلع البس الجزمة بسرعه” فدخلت مرة اخرى الى الدهليز وعدت الكَرة ثلاث مرات وكان في كل مرة يضحك الى ان قرصني في اذني واشار الى رجلي وقال لي اين الجزمه؟ فأدركت وقتها انني صدقت كذبتي , فصعدت اخيراً الى البيت ولبستها.
اذكر ايضاً ان المارين بزقاق النمر لم يسلموا من اذيتنا أنا و أخوتي حيث كنا لغرض اللعب وبسبب الشقاوة البريئة نقذف المارة بالبيض , و أحياناً كثيرة كنا نحذفهم بالبالونات بعد أن نملئها بالماء. ولأن زقاق النمر محاط بعدد من بيوتنا , فكان من السهل معرفة أن من قام بقذف البيض أو الماء هم ابناء السيد عبدالله النمر , وقد قام احد ضحايانا بشكوانا الى والدي حفظه الله الذي وضعناه في موقف محرج مع ذلك الرجل , ولكن بعد ان اخذنا علقه ساخنه من والدي توقفنا عن هذه الأعمال وادركنا انها خاطئة.
ان ازقة وبرحات جدة القديمة شاهدة على الكثير من المواقف الجميلة والحزينة , وهذه بعض ذكرياتي الشخصية في جدة التاريخية بحارة البحر العريقة التي حدثت في الثمانينات الميلادية من القرن الماضي
.@Mr_Alnemerr

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *