رحلتى إلى حافة الموت “حدث بالفعل”

نيفين عباس

بين الموت والحياة لحظة، تلك اللحظة تستطيع من خلالها تحديد مدى قوتك وقدرتك على التحمل والإستمرار، تقف فيها على مفترق الطرق بين أن تختار الموت أو أن تأخذ القرار الصعب وهو رحلة العودة إلى الحياة من جديد…
منذ حوالى إسبوعين تعرضت لحالة إغماء مفاجئ أفقدتنى الوعى على الفور وتسببت فى إصابتى بإرتجاج فى المخ، وما أن بدأت فى إسترجاع الوعى أدركت وقتها قيمة حياتى
أتذكر جيداً تفاصيل اللحظات الأخيرة لى.. تحدثت إلى أخى بالهاتف وأبلغته أن شقيقتى فى طريقها للنزول إليه.. كنت أضحك أثناء الحديث معه على الهاتف وكأن شيئاً ما بداخلى يشعر أننى سأبكى بعد لحظات.. أغلقت الهاتف ثم ذهبت إلى المطبخ لأخرج طبق المعكرونة المفضل لشقيقتى من الفرن والذى لا تتناوله إلا إذا كان من إعدادى.. جلست لثوانى لأتذكر أننى قد نسيت شيئاً ما…
وما إن بدأت فى القيام من مقعدى وجدت نفسى فى لحظة لا أشعر بقدماى لأسقط سقوطاً مدوياً يفقدنى الوعى على الفور
أصبحت فى ثوانى معدودة معلقة بين الحياة والموت.. بعد أن كنت أتذمر على حياتى وكيف أننى لا أستطيع تحمل أو حتى تغيير ما لا أطيق.. أصبحت الأن أتمنى لو أن أعود لتصحيح ما فات أوان تصحيحه
أصبت نتيجة الإرتجاج بنوبة يطلق عليها الأطباء نوبة هلع، جعلتنى أصرخ صرخات مدوية جعلت كل سكان العقار الذى أقطنه يبحثون عن مصدر تلك الصرخات… لم أدرك أننى على قيد الحياه من جديد إلا عندما وجدت بجوارى الكثير من الأشخاص
فى البداية لم أستطع ترجمة ما يقال لى.. ولا حتى ما يحدث حولى.. كل ما رأيته بوضوح فى تلك اللحظة كان أبى رحمه الله.. وجدته الوحيد بين الجميع الذى أستطيع أن أراه بوضوح.. كان يقف أمامى يطالعنى بنظرات حزينة للغاية وكأنه يرغب فى معرفة ما أوصلنى إلى حافة الإنهيار
تناولت بعض السكريات لتبدأ الصورة حولى فى الظهور بشكل أوضح.. إختفى أبى.. إستطعت تمييز الأصوات التى كنت أسمعها تأتى من الغرفة البعيدة.. وجدت العشرات الذين كانوا حولى فقط أخى وأمى وشقيقتى.. إكتشفت أن تلك الأصوات الكثيرة المتداخلة هى فقط صوت أمى!
قاموا بنقلى إلى غرفتى بإنتظار حضور الطبيب لتحديد ما أصابنى.. أتى الطبيب وطلب منى سرد تفاصيل ما حدث.. لكننى لم أستطع تذكر أى شيئ.. كل ما أذكره حتى تلك اللحظات هو أبى ونظراته الحزينة الرافضة لإصطحابى معه
تناولت بعض الأدوية التى جعلتنى أستطيع التحدث والعودة لطبيعتى.. ثم سردت للطبيب تفاصيل اللحظات الفارقة الأخيرة.. ثم إستمع لأسرتى لمعرفة ما حدث.. أبلغه شقيقى أنه هلع مسرعاً لكسر باب الشقة حتى يعرف ما هو سبب صرخاتى المدوية التى لا تهدأ.. وما أن دخل حتى وجدنى ملقاة على الأرض وبى جرح بالرأس وأصرخ فى محاولة منى للبحث عن يداً للعون تمتد لى لأعود للحياة من جديد.. ثم أبلغه أننى ظللت أردد عليه “روحى تخرج من جسدى.. أنقذنى”
هدأت العاصفة بعد أن تناولت أحد العقاقير المنومة لكن بداخلى شيء ما يزال مستيقظ.. وكأن نفسى أرادت تلقننى درساً عن قيمة الحياة لا ينسى..
مر أكثر من إسبوعان على الحادث لكننى لم أنسى حتى كتابة تلك السطور تفاصيله.. أمسكت قلمى وكتبت تفاصيل تلك اللحظات المرعبة داخل أوراق مذكراتى.. لأذكر نفسى كلما نسيت قيمة حياتى التى أهدرها على أمور وأشخاص لا تستحق
ففى داخل كل منا حالة عدم رضا عن بعض الأمور بحياته تجعله يضعف، تماماً كبعض الأمور التى أعيش بها ولا تتغير مهما حاولت تغييرها.. لكننا لن ندرك قيمة الأنفاس التى نتنفسها إلا بعد أن تتحول فى لحظة إلى أنفاس متقطعة معدودة
عندما أمسكت قلمى لأكتب وجدت أننى تحدثت عن نفسى وكأننى أعيد إكتشافها لأول مره.. كم كنت قاسية عليها.. كم جنيت عليها وقبلت لها بالظلم.. كم وكم وكم….
عدت حينها بالذاكرة إلى الوراء قليلاً.. لأتذكر تفاصيل اليوم العاشر من شهر فبراير العام الماضى.. ذلك اليوم الذى ودعت فيه أبى.. حاولت للحظة تخيل لو أن أبى كان يملك إختيار الحياة بدلاً من الموت.. وبدأت أتساءل.. هل كان أبى سيرفض الحياة؟!.. بالتأكيد لا!!
ولكن ماذا عنى لو كنت مكانه ولا أملك أى إختيار..!
هل عندما أتقبل أن أظلم وأُقهر سيحزن الظالمون لموتى؟؟
هل عندما أنتقص من سعادتى لأجل إسعاد من لا يستحق سيقدر ذلك؟؟
هل عندما يجتمع الحب مع الخيانة سيطلب الخائنون التوبة حزناً على وفاتى؟؟
هل عندما أضحى على حساب نفسى سيقابل ذلك بالمثل؟؟
هل سيتنازل من تنازلت يومآ من أجلهم؟؟
هل وهل وهل …
الكثير والكثير من الأسئلة جعلتنى أشعر بالخجل تجاه نفسى لأننى لم أجد الرد عليها
فكم لحظة سعادة هدمتها فى حياتى من أجل الحزن.. وكم صورة كان لى مكان فيها وإبتعدت.. وكم خفقه كان قلبى يستحقها وحرمته منها.. وكم شخص وضعته فى مكان لا يستحقه.. وكم خسارة خسرتها عندما أدرت ظهرى للحياة.. وكم خيبة تسببت بها عندما خسرت من لم يراهن يوم على خسارتى
لماذا لا نشعر بقيمة الأشياء إلا بعد أن نفقدها ؟؟ سؤال يحمل كثيراً من الإستفسارات وقليلاً من الأجوبة
وقتها شعرت وكأن نفسى كانت تنازع داخلى للخروج للحياة وإنتشالى من على حافة الموت التى أوصلتها إليها، أطلقت صراخاتها معلنة للعالم أننى بحاجة للحياة
مازالت نفسى حتى الأن تدافع عنى وتتحمل الصعاب لأجلى .. حتى بعد أن جعلتها تواجه الموت وحيدة بدونى بسبب أخطائى التى لا تتغير ولا أتعلم منها
أتذكر كم كان المشهد معتم للغاية.. سقوط مدوى.. جسد منهك.. قطرات من الدماء على جبينى.. صراع لإلتقاط ولو القليل من الأنفاس.. ولماذا كل ذلك العناء؟؟ ومن أجل من؟؟ ومن يستحق ؟؟ لا أعلم!!
فى رحلة العودة تعود بك الذاكرة للوراء حيث تركت أماكن وأشخاص ما كان لك أن تتركهم..
كلمسة يد جدى، أو النظر لوجه جدتى وهى تبتسم، أو أحضان والدى الدافئة، لقد حرمت منها جميعاً قبل أن أكتفى من أى واحدة منها
حتى الأحياء لم أعطيهم ما يستحقون، لم أستمتع بتفاصيل الضحكات أو حتى الصراعات التى كانت تدور بينى وبين أشقائى أو أمى أو صديقاتى فى المدرسة حينما نتحدث على الهاتف معاً، لم أقدر علاقتى بأشخاص أوفياء محبين مخلصين لن يكررهم الزمن فى حياتى من جديد
لماذا تركت كل هؤلاء خلفى؟؟ لماذا قررت أن أسير فى الظلام فى وقتٍ ولد النور فيه أمامى من رحم الظلام لكننى تركته!
لا أحد يستطيع إدراك قيمة الوقت إلا من أصبحت لحظاته فى الحياة معدودة..
دقيقة واحدة فصلتنى عن العالم كان بإمكانها أن تحولنى إلى العالم الأخر، دقيقة حددها الطبيب لى كانت مدة إصابتى بالإغماء، لكنها لم تكن دقيقة عادية تمر بها عقارب الساعات دون الإكتراث لأمرى، بل كانت عمراً كاملاً من التعلم بالنسبة لى
أبلغنى الطبيب وهو يحمد الله أن الأمر لم يتعدى أكثر من دقيقة لأننى إن تعرضت لإغماء أكثر من دقيقتين كان من الممكن أن يتطور الأمر إلى سكتة دماغية مميتة !!!
ومنذ ذلك الوقت كلما نظرت إلى المرآة لمعت عيناى بالدموع التى لن تعوضنى عن ما فاتنى من لحظات حرمت نفسى من أن أعيشها.. يالا سذاجتى حينما كنت أرسم الفرح على الظل، لماذا كنت أول من يسامح وأخر من ينسى؟؟ لماذا كنت أخشى أن أجرح الأخرين فى وقت جرحت فيه مرات ومرات؟؟ لماذا دخل الكثيرين فى حياتى كالنسمة ثم رحلوا منها كالعاصفة دون سابق إنذار؟؟
لا أستطيع العودة بالزمن للوراء، لكن ما تلقيته من أحداث عصفت بى جعلنى أكثر قوة وصلابة، جعلنى أكثر حرصاً على نفسى التى ظلمتها كثيراً وجنيت عليها فى كثير من الأوقات، أصبحت الآن أكثر تقديراً لمن يستحقون التقدير، أصبحت لا أقبل الأعذار ممن إنتقصوا يوماً من سعادتى
إلى كل من يقرأ كلماتى الأن، رفقاً بنفسك قليلاً، فكل ما سردته عليك من كلمات أقل حده بكثير عن ما أشعر به، فألمى العضوى الذى يدغدغ عظامى وجعلنى أشعر وكأننى أصارع سكرات الموت أقل بكثير من ألمى النفسى الذى يكتسح قلبى وكل جوارحى فى كل دقيقة
قد تختلف قصتى عن قصتك، لكننا إتفقنا فى شيئ واحد، وهو فقدان البصيرة..
نمتلك البصر لكننا لا نمتلك البصيرة يا صديقى… فلو كنا نمتلكها لما وصلت أنا وغيرى إلى ما وصلنا إليه الأن.. فلو كنت أدرى لما تألمت.. لما خسرت.. فالحياة أغلى من أن ننفقها على الحزن أو نهدرها فى تسجيل الأخطاء فى حقنا أو نهديها لمن لا يعلمون عن الوفاء إلا إسمه
وإعلم جيداً.. أن لا قيمة لأى شيئ أمام الموت..
المال، الحب، المناصب، الدرجات العلمية، لا قيمة لأى منها أمام الموت
وبعد كل الصراعات التى نهدر حياتنا فيها سنجد أن الحياة لم تتوقف بتأثرنا وحزننا، فالشمس ما تزال تشرق من جديد بوجودى أو إختفائى..وما يزال هناك من يولد ومن يموت.. ومازال هناك من يضحك ومن يبكى.. بنا أو بدوننا الحياة ستستمر.. فلماذا نشقى على أنفسنا فى الوقت الذى أعطانا الله فرصة لنعيش؟؟.

 

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *