[COLOR=blue]عبدالرحمن آل فرحان[/COLOR]

قبل يومين كان لدي موعد لصيانة السيارة في الوكالة ، وقد تطلب الأمر أن أبقى من دونها لمدة تتجاوز الأربع ساعات ، ولأني لا أحب الانتظار فقد قررت ريثما تنتهي أن أمشي ، فانطلقت أجوب الشوارع القريبة من المكان ، كان أول ما استفز ذهني وأنا أتهادى على الأرصفة هو شكل الشوارع !! كانت تبدو غريبة .. مع أني أعرفها جيداً .. أو بالأصح .. كنت أظن أني أعرفها .. لأن ما نراه من خلال زجاجات سياراتنا في الطريق لا ترقى لأن تكون معرفة حقيقية .. هي معرفة زجاجية عابرة .. مجرد لمحات خاطفة لا تزرع انطباعاً صادقاً إنما وهماً .. طرق وعمارات كأنها قوالب صامتة لا تشي بأكثر من الغموض والحيرة .. وعابرون كأنهم أشباح وليسوا بشراً !! هكذا المشهد ونحن قابعون داخل أقفاصنا المتحركة .. وما دمنا كذلك فمعرفتنا ستظل ناقصة وباهتة ولا تعادل شيئاً مما يعرفه الوافدون عن مدننا وشوارعنا وأحيائنا وحاراتنا .
المشي جعلني سعيداً بشكل لا إرادي حتى أنني ومن دون مبالغة قطعت ما يزيد عن عشرة كيلومترات بلا وعي .. وحرقت ما يربو فوق الألف وحدة حرارية من دون إعياء . لكن ذلك لا يهم .. المهم أني كنت سعيداً ، أما لماذا كنت سعيداً ؟ فلا أدري !! ربما لأن المشي يجعل المرء أكثر تواضعاً ؟ فقد قيل أن أكثر الناس سعادة هم أكثرهم عفوية وتواضعاً ؟ وربما لأني أرى أكثر .. وأسمع أكثر .. وأتنفس أكثر .. وملتصقاً بالناس والأرض أكثر ؟؟ لكن ما أنا متأكد منه أن المشي أفضل من مقود السيارة لمن أراد أن يحيا مدينته .. حيث لا يسقط على وعيه سوى ما يسقط عن متاع الرؤية .. ، وأعتقد أننا جميعاً كسعوديين نفتقد لهذه المتعة .. نمضي لأعمالنا.. للسوق.. لأصحابنا .. للتنزه ونحن في السيارة !! حتى حينما نرغب في تضييع الوقت !! نضيعه كذلك بالسيارة ، لذلك لا غرابة أن أصبح معظمنا يعيش حالة من الغربة النفسية والاجتماعية وهو في وطنه وداخل مدينته .. ألا تستشعرون ذلك حينما نتقابل في استراحات البنوك أو المستشفيات أو غيرها !! ألسنا نجلس بجوار بعضنا ولا يحدث أحدنا الآخر إلا إن كان يعرفه ؟ ونتقابل في الأسواق بلا تحايا أو ابتسامات !! بل أن معظمنا بات يتوجس حينما يسلم عليه شخص غريب !! ماذا تريد ؟ لماذا تسلم !! هل تعرفني ؟
إن المشي في الشوارع علاوة على أنه رياضة واستعادة للصحة فهو أيضاً يعد أدباً اجتماعياً بحد ذاته ..فهو يبقيك قريباً من تفاصيل الناس والمدينة ، فمن خلاله تقيس نبض المجتمع وهمومه .. وتعايش أزماته ومشاكله ، لذلك في معظم مدن العالم من يريد أن يعرف الرأي العام وما يهذي به الناس عليه أن ينزل للشوارع ، ومن أراد أن يخرج من دائرة أحزانه عليه أن ينزل للشوارع ..كذلك من يبحث عن الحب .. الألفة .. الإخاء .. المرح يهيم في الشوارع .. حتى الذي لا يدري أين يمضي ولا كيف يقضي وقته ينزل للشارع .. أما نحن هنا .. فلا علاقة تربطنا بالشوارع سوى أنها ممرات لعجلات سيارتنا .. لا نلقي على أرصفتها همومنا .. ولا نكترث أو نهتم لهمومها .. لذلك أنا وحيد في هذا الشارع .. وأشعر أن كل شيء فيه ينظر إلي باستغراب .. الأعمدة .. الأشجار .. الحُفر .. حتى بائع القهوة كان مندهشاً .. وشعرت حينها أن قصيدة السوري صلاح الحسن تصدح في أذني:
\”رجل يسير على الشوارع مثل الناس يمطر الناس سلامات وأنقاض ابتسامات \” .

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *