حكاوي من أدب الكسرة
م. أنس الدريني
ربما كان للتجاهل دور في التحجيم من قدرها أو كان للتغيّب المتعمد ذات الدور بيد أنها ظلت معشوقة بيننا كفن شعري غنائي تلقائي له قيمته الأدبية وبلاغته اللفظية، تداولتها الأجيال بالمشافهة حتى قبل أن يعرف المهتمون بها وسائل التدوين السائدة في هذا العصر. وعلى إيقاع الزمن الجميل وإلى حيث البحارة ومواويل العشاق ومن حيثيات المقهى العتيق وليالي السمر عرفنا الكسرة الشعبية كتراث أصيل نتجاذبه حكمة جامعة وصورة أدبية راقية تعبر عن واقعنا البسيط بمفردات بسيطة جاءت من كلام عامة الناس وخاصتهم دونما تكلف أو تصنع.
يقول عنها الأستاذ عبدالرحيم الاحمدي أنها نشأت في المنطقة المحاذية للساحل الشرقي من البحر الأحمر على امتداده وإن كانت تتركز في أوسطه في المدن الساحلية وأودية تهامة، وفيها تجتمع كل التقنيات الموجودة في الشعر الفصيح من أسلوب ووزن وقافية ما عدا التزامها بقواعد اللغة العربية وهي جزء من الشعر النبطي شأنها شأن المجالسي والحداية والمجارير وتتألف من بيتين من الشعر تختصر فكرة ما ولها أربع أركان مستقلة يربط بينها علاقة وثيقة تتكون منها الكسرة ففي الركن الأول أو الغصن الأول كما هو متعارف عليه يكون الافتتاح ثم في غصنها الثاني يكون التدريج بالمعني ثم الاقتراب منه وأخيرا يكون الإفساح الذي يكتمل معه المعنى وهو ما يتشوق لسماعه السامع.
ولعل في عفوية الكسرة كأدب إيجازي مختصر ما يريح النفس ويؤنس الخاطر وهذا ما دعاني لرسم هذه اللمسات الفنية لنقف من خلالها عند نماذج منوعة من شعرها الأخاذ ونستشعر روعة التصوير والتجديد لدى شعرائها المبدعين.
فعندما يخالج ذلك المحب شعور بالغربة على دروب الهوى وترهقه الحيرة مابين اللقاء والفراق فلن نجد أبلغ من تجسيد الشاعر بدر البلادي لحالته المؤثرة يقول بدر:
أغراب الأيام لمتنا.. حتى هوينا وصرنا أحباب
ونفس البداية نهايتنا.. أغراب جينا ورحنا أغراب
هكذا ينتهي به المطاف ليخرج من رحلته الشاقة كالقابض على الريح.
الشاعر عبدالرحمن عايش لم يجد وسيلة للقاء وأكتفي بكتابة وصيته على ورق الرسائل وكان صوته محملا بالحزن الخانق
أسكن فحي الليالي السود.. خلف الأسى شارع الأحزان
على أمل لا نويت تعود… ما أتوّه وتضيّع العنوان
لقد ظلت هذه الجوانب مثيرة لشغف عشاق الكسرة لأنهم يعرفون مكامن قوتها ويتفاعلون معها لذا كان تأثيرها قويا على أطياف المجتمعات الساحلية وخصوصا المجتمع الينبعي والذي احتفى بالكسرة أيما احتفاء وجعلها الشعر الأول لديه ولعل من شعرائه الأفذاذ الأستاذ طه بخيت الذي تفنن في صياغة تراكيبها الماتعة الخلابة يقول في واحدة من أجمل ما كتب
ما سهرت العين مختارة..ولا بكت من حنيني لو
ما مر عن أمسها شارة.. نفس العطر وامتثال الجو
ذكرى على جدار وستارة.. واللي بقي من لهاث الضو
مكتوب من تحتها عبارة.. يا سنين ما كنها الا تو
الأمر لا يختلف لدى المتألق دوما الشاعر أحمد بدين يقول:
خذني من الواقع المؤلم.. يا حلم ذاك الغرام العذب
بعدك أنا في نفق مظلم..من أوله للنهاية كذب
إن للكسرة جوانبها الإنسانية والتي تتضمن صورا من الحكمة والنصيحة وهذا النوع يعد الأكثر رواجا بين الناس وبالذات حين ترتبط بمواقف إنسانية مؤثرة وقد ابدع شاعرنا الكثيرة عايش الدميخي في هذ الجانب وله كسرات كثيرة في هذا الجانب من ذلك:
نمي رصيدك بحب الناس..تراه أفضل من الأموال
واعلم ترى أعظم الإفلاس..خسارتك فالحياة رجال
وأيضا:
أوصيك عن تجربة ومراس..خل القناعة فيّدك سلاح
لا تحتقر موقعك فالناس…وأنظر بعين الرضا ترتاح
وللإيثار كلمة لن تستمتع بمعناها إن لم يكن قائلها العذب محمود عزازي:
من حبي الناس لو يخطون.. عليّ أنا أعتذر منهم
وأقولها دون ما يدرون..مخطي أنا والخطأ منهم
وحتما حين يحاكي شاعر املج عبدالله باخت معاناته الدامية سيكون حديثه ذا شجون وهكذا عهدنا حروفه الشجية:
شديت وانا أحترق بالشوق..وصديت وأنا حزين فراق
لكن عزاء قلبي المحروق..مازال يحمل أمل وأشواق
ولعل من أكثرها تأثيرا في ذاتي تلك التي رويت عن الشاعر عبدالله عطية الصيدلاني حين غادر من عنده أحد جيرانه تاركا بين يديه أطفاله الصغار إلى حين عودته من السفر وتشاء الأقدار ويتعرض لحادث في طريقه للعودة ويموت فيخاطب بن عطية أطفاله قائلا:
يامن درى ودعوا بك من.. عليك يالعين من وصوا
يالعين منه عليك يحن.. بعد المودين ما قفوا
لقد كان للكسرة مكانتها في الماضي وكان شعرائها لا يتسرعون في النشر من قبل أن يعرضوا كسراتهم على أناس متمكنين في هذا الفن لهم دراية تامة به احتراما لأنفسهم وتقديرا لذائقة العامة
يطول الحديث في هذا المقام إذا ما أردنا أن نستعرض شؤون وشجون هذا الفن الجميل والذي ارتبط بعدد من الأهازيج والفنون الشعبية العريقة كالرديح والتقاطيف والخبيتي وإن كان الرديح من أهمها وذلك لأن حواراته تتم عبر فواصل غنائية مميزة من ألحانه المعروفة زمانين والعناب ومالك الروح ولأنه حظي باهتمام كبير من قبل النقاد والباحثين لسنوات عدة بالإضافة إلى اتساع انتشاره وتنوع أدواته يقول الشاعر بنية العروي رحمه الله يقول
آنا ما وافق على فراقه.. لو كان كل العرب تلغيه
لجلي تعمقت فاعماقة.. ولا زال عندي امل وأرجيه
بهذا الأمل الملح نتطلع نحن عشاق الكسرة لعودة صفحاتها التي كانت مرفأ للعذوبة عبر صحفنا اليومية إننا نتساءل عن سبب إلغائها على الرغم من أن عشاقها كثر ويتناثرون عبر أرجاء الوطن إنهم يتغنون بصوتها ويرددون ألحانها المنغمة بالحب والشوق والمواعيد فهل لندائهم آذان مصغية.
[email protected]
التصنيف: