[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]علي محمد الحسون[/COLOR][/ALIGN]

•• كان ذلك الزمان قبل الزمان بزمان.. كانت مدينة الابهار له عندما وصل إليها في ذلك اليوم شديد الحرارة وكانت تغتسل في \”حمام\” من الرطوبة الخانق التي لم يتعودها فهو أتى من مدينة لها طابعها المناخي – الجاف – هذه جدة .. وهذا بحرها الغامض وهذا رتل من سيارات التاكسي تقف في موقعها أمام مركز البحرية بجانب فندق البحر الأحمر ذلك الفندق المبهر. هبط من \”التاكسي\” كان والده في انتظاره ليأخذه إلى منزله لم ير والده منذ سنوات لا يعرف كم هي وإن حسبها طالت الآن كان في الصف الخامس الابتدائي عندما غادر والده بيتهم لأول مرة نظر إلى والده قبل أن يرتمي في أحضانه كأنه يريد أن يعاتبه لماذا تركتنا؟
لكن أباه ضمه إلى صدره كأنه يريد أن يعوضه كل بعاد السنوات الماضية لم يتبادلا أي كلام كانت أحاسيسهما هي الترجمان لما يشعران به.
•• توقف \”التاكسي\” أمام مدخل أحد الأزقة هبطا منه تخطيا بعض الجالسين تحت ذلك الجدار الطيني اتسع \”الزقاق\” بدا له كأنه \”حوش صغير\” كأحواش مدينته في صدر \”الحوش\” دفع – والده – الباب ليدخلا الى ذلك البيت الذي بدا له صغيراً.
•••
كانت \”الصحيفة\” تلك \”الحارة\” الواقعة بين باب مكة غرباً والكندرة شرقاً والعمارية شمالاً وطريق مكة جنوباً بدت له بأنها حارة ليست قديمة كقدم بقية الحارات الأخرى كالعلوي والشام والبحر والمظلوم لا يعرف لماذا راح يقارن بينها وبين بعض الحارات الجديدة التي نبتت في مدينته المدينة المنورة كحارة البحر والمشرفية والبشرية والمغاربة والنصر وغيرها.
بلع لسانه ولم يقل شيئاً عن الذي جال في خاطره لوالده.
•••
في اليوم التالي بدأ ذلك الصباح ورطوبة الأرض المغسولة بسوق الندى طوال الليل بكثير من التفاؤل والرضا وإن كان تسكنه رهبة المكان الذي لم يتعود عليه إنه أتى من تلك المدينة الحبيبة على قلبه والتي يكاد يعرف تفاصيل حياة أهلها فرداً فرداً إنه يأتي إلى مدينة يسمع عنها بأنها مدينة مسكونة بأولئك – الأجانب – بحكم السفارات وهو لم يتعود على العيش والتعامل مع هؤلاء إنه يعرف كل الأجناس من العالم الإسلامي الذين يأتون إلى مدينته للزيارة والصلاة في مسجدها الشريف لكن كلهم مسلمون.
عند مدخل الباب القى نظرة سريعة على مرآة المغسلة لمح على صفحة وجهه بعض الفرح لا يعرف من أين مصدره: أمام البيت المكون من غرفتين وفناء واسع ومطبخ وحمام توقف قليلاً.. تخطى قنطرة الماء التي كانت تخترق مساحة طويلة بين البيوت ورائحة عفنة تفوح منها لكنه لم يتساءل من أين وإلى أين تذهب هذه المياه كأنه اعتاد على عفنتها.
•••
توقف أمام – دكان – والده في باب مكة الذي كان غارقاً في إعطاء ذلك الزبون ما يريده من \”لحم\” وهو يشير إليه إلى نواحٍ معينه من الشاة المعلقة أمامه.
اقتعد أحد الكراسي بجانب الدكان .. عندما انتهى والده من الزبون تنبه إليه دون أن ينظر إليه قال له ها فطرت .. رد بصوت خافت لا..
روح لعمك – عبدالرحيم – الفوال في الجانب الآخر إنه خلف دكان الفكهاني – مصطفى السني – عندك الأخ حسين ماطر يدلك عليه.
وقف وراح ينقل بصره على صف الدكاكين هذه دكاكين الجزارين وهذه دكاكين الخضار وهذه – الفاكهة وهذه الشينكو وتلك عربات السمن والجبن. فوصل إلى عم عبدالرحيم الفوال كان رجلاً يمنياً قصير القامة يلف على رأسه عمامة حلبي وتحيط – بكوفية – مكاوي – كرشه يكاد يصطدم بفوهة الجرة.. نظر إليه وهو يناوله صحن الفول وطبق الخبز البلدي لينزوي في أحد أركان الدكان.. شعر أنه لم يذق طعماً للفول مثل هذا الفول بعد أن انتهى من إفطاره دس في يده نصف ريال فضة ليعيد له ربع ريال.
•••
أخذته قدماه إلى سوق العلوي هذه دكاكين العطارين رائحة العطارة المخلوطة بالفاسوخ والجاوي والكمون والشمر كلها تذكره بجو المدينة المنورة في ذلك السوق الذي ألفه وعاشه بتعرجاته وفرشه الحجري.. إنه سوق القماشة.
توقف أمام ذلك المبنى الكبير إنه بيت نصيف \”المحافظ عليه\” لا يدري لماذا تذكر بيت الخريجي في المدينة المنورة \”الذي لم يحافظ عليه\” إن المقارنة عنده قائمة بين البيوت وبين الأزقة والشوارع بل وبين سحنات الناس وملابسهم إنها هي .. هي واصل سيره إلى \”النورية\” هذه سوق الجزارين الأساسية مثلها مثل خان الجزارين في المدينة المنورة.
استرجع ذكرياته عندما كان والده مقيماً في المدينة وكان يذهب إليه في ذلك الخان بعد أن يخرج من المدرسة ليقضي وقتاً يحسبه طويلاً من قبل صلاة العصر حتى قرب أذان المغرب ويعرف اليوم الذي قرر والده فيه الذهاب إلى جدة وتركه وأمه وأخته في المدينة لا ينسى ذلك اليوم الذي بدا له الآن بكل قسوته شيئاً من الكابوس الذي يريد أن يتخلص منه.

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *