[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]محمد أحمد عسيري[/COLOR][/ALIGN]

عندما كنا صغارا كان يجوب قريتنا الصغيرة رجل غريب ينادي بصوت شجي كصوت الناي المحمل بالشجن ، كلحظات الوداع وقت الغروب واحمرار الشفق :
جرب حظك يا إنسان ..
جرب حظك يالله وعيش ..
فنخرج من بيوتنا كأسراب الحمام الباحث عن الحرية عند فجرٍ لمح جبين الشمس ليتنفس الصبح على صدر قطرة عالقة في غصنٍ ندي . لم نكن نعي كلمة (حظ) التي كانت لا تفارق كلماته الجميلة المبللة بالتفاؤل .. كان منظرنا ونحن نتساقط نحوه كحبات البرد النقية ونجتمع حول عربته المزينة بجبال بعيدة ، وطيور بيضاء ، وسنابل مشدوهين بتلك الرسومات التي كانت تحملنا بعيدا عن القرية والأزقة التي لم تتغير .. لم نكن نعرف البحر إلا من خلال تلك الرسمة الجميلة على مؤخرة العربة وطيور النورس القادمة من خلف الغياب .
كنا نسير خلفه بهدوء النسائم منصتين لكلماته التي تبخرت عبر السنوات ولم يبقى منها في ردهات الذاكرة سوى القليل مع صورته التي توقفت عند ريعان شبابه وأبت أن تشيخ . تحت شجرة الكينة يقف بعربته العتيقة يلف رأسه بعصابة بنية جميلة ونحن نمد أيدينا ببراءة السماء وطهر الأرض لنجرب حظنا وما خبأه لنا الصندوق من مفاجآت .
بضحكته العريضة يسحب صندوقه الذي كان يتصدر حكاوي الجدات في قصص الزمان البعيد ولحظات السمر وكيف أنه يفتح الأبواب الموصدة ، ويعود بالأماني على أجنحة طيور من خلال نور منبثق منه. يضع صندوقه أمامنا ليبدأ أصغرنا باختيار الصورة أو الشكل الذي ستطاله إصبعه لمعرفة هبة القدر . كان كل شيء صغير حتى عندما كنا نقوم باختيار حظنا .. فكل ما يشغلنا بالنا قطع الحلوى الملونة المندسة تحت أغطية ورقية تحمل صورا لأشخاص لم نكن نعرفهم ، ولكني أذكر أني كنت دائما ما أختار ذات الصورة لأكتشف فيما بعد أنها لممثل مشهور ذائع الصيت .
واختفى جرب حظك كما كنا نناديه عبر النوافذ وفوق الجدران .. تلاشى على مهمل حتى أننا لم نشعر بغيابه كما أننا لم نشعر بالأيام وهي تطوي سنواتنا لنفاجئ بأعمارنا وهي تطرق صدورنا وترسم لنا أشكالا غير تلك التي اعتدنا الركض معها . سكت صوته وتاهت كلماته الجميلة ليصبح حكاية من حكايات المساء . وها نحن اليوم نفتش عن حظنا في صندوق الحياة الكبير لعله يكشف لنا عن قطعة حلوى تعيدنا لموال ذلك الغريب :
جرب حظك يا إنسان .. ولكن مع الفارق الشاسع بين الصور والأماكن والقلوب ومساحات الحب . حنين يطفح على روحي لصباحات الركض البريئة ، والتأمل خلف عربة الحظ ، والرسومات .. وربما أكثر لقطع الحلوى .
[email protected]

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *