جدال السياسة أم جدلية الثقافة؟
[COLOR=blue]مالك التريكي[/COLOR]
وقعت جملة من الأحداث التي تهم أوساط الصحافة والإعلام في الغرب، ولكن لها دلالات تتجاوز محيطها لتشمل واقع الإعلام في مناطق أخرى، بما فيها الوطن العربي. وقد كان أبرز هذه الأحداث في بريطانيا وفاة السير ديفيد فروست الذي ظل يحتل مكانة بارزة في الصحافة التلفزيونية على مدى نصف قرن، والذي اكتسب شهرة عالمية بفضل تمكنه من إجراء حوار مثير مع ريتشارد نيكسون في أعقاب اضطراره للاستقالة من رئاسة الولايات المتحدة عند انكشاف فضيحة ووترغيت.وقد حرصت قبل عامين أو ثلاثة على أن أشهد محاضرة ألقاها فروست في تشاتهام هاوس حول تجربته الصحافية. وكان المفاجىء أنه لم يفعل طيلة المحاضرة سوى أن روى سلسلة من النوادر والمواقف الطريفة، بل والمضحكة، التي عرضت له في حياته الصحافية . ولا شيء غير ذلك، لا نظريات ولا دروس. وعندما سئل عن سبب ثباته على أسلوبه الودي الناعم في المحاورة (على عكس بقية المذيعين المعروفين)، قال إن زعيم حزب العمال الراحل جون سميث قال له مرة إنك أخطر المحاورين لأن أسلوبك يطمئن الضيف ويخدره، فما هي إلا أن يأخذ في الحديث حتى يغفل فيبوح بما وطّن النفس على أن يخفيه.أما أهم الأحداث الأخرى، فهو إحياء خمسينية ثلاث مؤسسات إعلامية راقية: مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس، ومجلة لونوفيل أوبسرفاتور وإذاعة فرانس كولتور. فقد شاءت الصدفة أن تنشأ جميعها في العام ذاته -1963- وأن تبلغ الخمسين، بعد أن تكون كل منها قد وسمت الصحافة السياسية والثقافية بميسمها الفريد. ولست أعرف مجلة فكرية وثقافية أعمق وأكمل من نيويورك ريفيو (رغم وجود مجلات أخرى هامة مثل لندن ريفيو وماغازين ليترير). ولهذا روى الكاتب والصحافي الفرنسي الفذ جان دانيال، مؤسس لونوفيل أوبسرفاتور، أنه ملتزم بمطالعتها التزاماً.كان جان دانيال، الجزائري الأصل، من أصدق أصدقاء ألبير كامو (الذي بدأت الأوساط الثقافية الفرنسية هذا الخريف في إحياء مئوية مولده). وقد بلغ منذ شبابه طبقة السمو التي لا ينتمي إليها إلا الصفوة: أمثال الفرنسيين جان لاكوتير، وأندري فونتان وجان دورمسون والبريطاني هيوغو يانغ والأمريكي وليام بفاف. والرأي عندي أنه أهم صحافي في العالم. إذ إنه مفكر وأديب موسوعي ذو أسلوب صارم وفاتن في آن – اختار أن يكون صحافياً منذ بداية الخمسينات بمحض قرار واع بألا ضمان لتكافؤ فرص نفاذ الجمهور إلى أرستقراطية الثقافة العليا إلا عبر ديمقراطية الصحافة الجادة. وقد أراد للونوفيل أوبسرفاتور أن تكون مجلة سياسية وثقافية جسورة مجددة، في إطار المساندة النقدية لليسار ولشعوب العالم الثالث (بما فيها شعوب فلسطين والمغرب العربي).أما الإذاعة الثقافية فرانس كولتور، فهي مأدبة روحية دائمة فيها من أطايب الأدب والفن والفلسفة والتاريخ في كل حين. إذاعة من الطراز الرفيع الذي كتب السياسي البريطاني جورج وولدن قبل أعوام أنه يتمنى لو يوجد مثيل له في بلاده.هل من دلالة تستفاد عربياً؟ أي نعم: إن الصحافة الثقافية الجادة ضرورة حيوية للأمم الحية، وأن الأخبار – التي أغلقت الفضاء بفضائياتها – لا تقوم مقام المعرفة، وأن المصير لا يبنى بجدال السياسة بل بجدلية الثقافة.
التصنيف: