كنت أركض عن مدارك أعين الأصدقاء الذين تركتهم يعدون العشرة فيما أبحث عن مكان آوي إليه ، مكان يستعصي عليهم كشفه ، كنت أركض قبل أن يتعثر انتباهي بها ،مررت بجوارها مرور الشهب ، لكن طيفها استوقفني بلا إدراك مني بعد أن تجاوزتها بقليل ، بل وأجبرتني على التقهقر للخلف لأقرأها مرة أخرى : ” أولها حلم .. وآخرها ذكريات ” جُملة لم تكن أول عبارة اقرأها بمحض إرادتي من خارج كتاب ( الهجاء ) المدرسي وحسب .. بل وأول نص أتأمله بكل مداركي ، ساعدني في ذلك جمال الخط الذي كُتبت به ، أما المكان فهو عتبة باب خشبي عتيق لمنزل شعبي في قريتي التي غدت اليوم مهجورة بالكامل ، طفولتي في ذلك الوقت لم تكن تتجاوز الأعوام الثمانية الأمر الذي لم يسعفني على فك مدلولات تلك العبارة ..الحلم ؟؟ ما هو الحلم ؟ وعن أي ذكريات تريد تلك الكلمات أن تحدثني بها ؟ فلم يطل مكوثي بين يدي هذه التعويذة كثيراً ، أكملت ركضي حتى لا يجدني أصدقائي صيداً سهلاً .. فأخسر أيضاً هذه المرة .
لم أكن أعلم أن أقدامي ستعيدني مرة أخرى وعلى حين صدفة أيضاً أمام ذلك البيت الحجري القديم وبابه الخشبي العتيق !! في المرة الأولى التي وصلت فيها لهذا المكان كنت هارباً من الصبية الذين يتشاركون معي لعبة المطاردة ، لكن هذه المرة .. ما الذي قادني لذات المكان ؟ هل يعقل أن يكون لذات السبب ؟ هل لا زلت مطارداً ؟ لكن من يطاردني ؟ هل هو الخوف من الحاضر ؟ أم هي شواظ الذكريات التي ختمت بها تلك العبارة ؟ لا أعلم ؟؟ ما أعلمه أني غدوت أمام هذه العتبة من جديد .. لكن بإدراك ووعي مختلفين تماماً .. أنا الآن رجل تراكمت بين دفتي ذهنه زخم السنين بلذاتها وخيباتها ولا أبالي بما تريد أن تصدمني به تلك التعويذة المريبة ، دنوت من تلك العتبة لعلني أجد تلك الكلمات .. كانت رثة جداً ولا أثر لأي حرف أو كلمة على أديمها ؟؟ لعل عفاريت الغياب .. ومردة الصمت.. والمسكونون في برودة الليالي الموحشة قد ألحفوها رداء المس .. نعم ممسوسة ومصابة بالجنون ..فلم تعد في محط أبصار العابرين ؟؟ أو ربما أن الثلاثين عاماً التي قطعتها بين أمواج الفصول المتعاقبة والوجوه المتبدلة قد ارتشفت حبرها حرفاً حرفاً لتسطر به صفحات ذاكرتي التي غدت من وطأة التجارب وعثرات الارتحال متعبة ؟؟ أين تلك العبارة ؟ لأخبرها عن محطاتي .. عن حلمي .. وعما نسيته من ذكريات ؟

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *