تعليم الشعر .. وذاكرة اللغة الخلاقة
[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]د. صلاح فضل [/COLOR][/ALIGN]
يعتمد مفهوم التنمية اللغوية بمنظور العصر الحديث في اعتماد الثراء المعرفي علي تعدد المصادر المشروعة, وإتاحة الفرصة لابتكار الأساليب والطرائق المفضية إليه, مما يتعارض جذريا مع النزاعات الأصولية التي تري في نقاء اللغة مظهرا للتفوق العرقي في الحروب الإثنية, وتضفي عليها صبغة أيديولوجية تتذرع بالفهم المغلوط للدين تارة, وبالمصالح السافرة للسياسة تارة أخري, مما يدفعها إلي انكار الواقع التاريخي الذي يشهد بالتلازم المحتوم بين تطور أنماط الحياة بالحصاد اللغوي في مختلف مستوياته الصوتية والمعجمية, التركيبية والدلالية, علي اختلاف آثار هذا التلازم ووضوح معطياته, فلا مجال للحديث عن التنمية في اللغة ما لم نأخذ في اعتبارنا دينامية الاستعمال, ومصادر الثروة المستحدثة فيها.
روافد التنمية: هناك ثلاثة روافد أساسية تسهم في تنمية اللغة, ويختلف خط اللغات في الإفادة منها طبقا لشروط ثقافتها وحيوية معرفتها ومرونة بنيتها الداخلية, وأحسب أن تراتبها في الأهمية يمضي في اللغة العربية علي النسق التالي:
الرافد الابداعي في أشكال الأدب بأجناسه المختلفة, ومنجزاته اللافتة في تخليق الصيغ والتعبيرات الجديدة, وفتح قنوات التواصل بين الحقيقة والمجاز, وابتكار أشكال متجددة في أبنية اللغة لزيادة كفاءتها علي ما سنوضح بالتفصيل في هذه الورقة, ونعد هذا الرافد أساسيا لأنه يتمتع بمشروعية لافتة, إذا كان الشعر دائما مصدرا للتقعيد في اللغة العربية وشاهدا حاضرا علي أشكالها.
الرافد المعرفي المتمثل في محصلة التطور في العلوم الإنسانية والطبيعية, بما يطرحه من تصورات تتجسد في كلمات الحياة المتسربة الي صلب اللغة من ناحية, أو المتبلورة في مصطلحات العلم من ناحية أخري, وهو رافد ماثل في حركة اللغة علي مر العصور, لكنه يتعاظم في فترات الازدهار العلمي والاحتكاك بالثقافات الأخري عبر الترجمة كما حدث لدينا مثلا في عصر المأمون وإبان بعض مراحل الحقبة الأندلسية, وهو يشهد التصاعد إلي ذروته في ثورة العلوم في العصر الحديث بإيقاعها المتسارع, مما يجعله محكا حاسما في قياس مدي حيوية اللغة وطاقتها علي احتواء المعرفة وقدرتها علي تلبية الحاجات الضرورية للتنمية بل وأخذ زمام المبادرة فيها بالإنتاج العلمي ذاته.
أما المصدر الثالث من روافد التنمية اللغوية فهو ما يمكن أن نطلق عليه عبارة الرافد الواصلي, وهو الذي ينجم عن توالد اللغات في مراحلها التاريخية عبر العصور وما يتركه السابق في جسد اللاحق من آثار, كما يتمثل في تزاحم اللغات في مكان واحد وتدافعها للاستحواذ علي طبقات المجتمع من ناحية ثانية, وأخطر من ذلك من نراه من نمو طبيعي للغة يميل عادة للتحرر من القيود والاستجابة لمقتضيات التطور وربما كان هذا الرافد بعناصره المتعددة أعصي علي التحليل وأصعب في الاعتراف بنتائجه وتقبل معطياته, خاصة في ثقافتنا العربية التي اتسعت فيها مسافة الخلف بين الفصحي والعاميات, وإن انتظمت في جدلية مثيرة للاهتمام كان أفضل من نبه إليه في الفكر اللغوي الحديث استاذنا الدكتور إبراهيم أنيس في تحديده للسمات المشتركة بين الفصحي والعامية وتبعه الدكتور شوقي ضيف في التركيز علي فصاحة العامية, وإن لم نتفق حتي الآن علي درجة قبولنا لنتائج هذا المنظور في توسيع دائرة التطور ليشمل ما يسمي أبنية الإعراب الثانوية وضرورة الاكتفاء بوظيفة الإفهام الأساسية في التواصل.
طبيعة الذاكرة: علي أن مصطلح الذاكرة الذي أوظفه في هذه الورقة يمتح مفهومه من مجال علم النص الذي يولي أهمية كبري لعمل المخ البشري ومراكز الإدراك والإنتاج اللغوي فيه, فيميز علماء النص بين نوعين من الذواكر: إحداهما قصيرة المدي, والأخري طويلة المدي, ويدرسون آليات الاستدعاء والتذكر وأشكال التعالق بينها بطريقة علمية تجريبية, وبوسعنا الإفادة من هذا العلم باقتراح ثلاثة مستويات للذواكر اللغوية تمضي علي النسق التالي:أولا: الذاكرة المرقومة, وهي التي تتمثل في المعاجم والقواميس لمعتد بها علي مر العصور, وهي تتميز بالثبات النسبي, والتوالد البيني, وتمنح الاعتراف بشرعية الكلمات والتعبيرات الواردة فيها, وتتفاوت فيما بينها في الكم والكيف, اعتمادا علي درجات الاستصفاء ومعايير الإضافة والانتفاء, وهي ذاكرة بالغة الثراء في اللغة العربية, وإن كانت تحتوي علي كثير من الخلايا الميتة في جسد اللغة.
ثانيا: الذاكرة الموظفة, وتشمل المادة اللغوية الماثلة في أشكال الكتابة المختلفة مما يتوافق مع معجم اللغات المجمد حينا ويتخالف معه بمرونة سائلة حينا آخر, فيستحدث مستجدات الإبداع الأدبي والعلمي والثقافي معترفا بها بشكل ضمني, وهي ذاكرة تتميز بالسيولة الحركية والتدفق النوعي وقابلية الخلق والنماء.
ثالثا: الذاكرة النابضة, وحصيلتها ما يحيا في الوعي اللغوي الآني للجماعة في فترة تاريخية محددة, كما يتمثل في خطابهم المتداول في مختلف جوانب الحياة من السياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وعلمية وإعلامية, وهي ذاكرة شديدة التنوع والاختلاف والحركية, عسيرة الضبط والتقنين, إذ تمتح من النوعين السابقين بحرية لافتة, وتخرج كثيرا علي محصلتهما بجرأة مشهودة, ويتجلي فيها صراع القوي والنزاعات, واختلاف المشارب والطبقات, وهيمنت بعض الفئات في المجتمع علي البعض الآخر, وبوسعنا أن نعتبر الإعلام المقروء والمسموع والمرئي والرقمي مرايا هذه الذاكرة النابضة في اللحظة التاريخية الراهنة, وقد اقترحت مشروعات عديدة لمحاولة الإمساك بحصاد هذه الذاكرة وتحليله وتصنيفه بمعايير مختلفة, لكن أيا منها لم ينجح حتي الآن في الثقافة العربية, مع إمكانية الإفادة من الطاقة المذهلة للحواسب الآلية في عمليات الرصد والتصنيف والتحليل لمادتها الغزيرة.
الأهرام المصرية
التصنيف: