لم تكن الحياة في مدينة جدة داخل سورها القديم حياةً يسيرة بسيطة بل كانت شاقة جداً في ظل عدم تطور المدينة وانفتاحها على كل ماهو جديد من خدمات او تقنيات. ولذلك عمل ابناء جدة القدماء في جميع المهن المتوفرة داخل ذلك السور والتي اتسمت بالمشقة والتعب لما لصعوبة الحياة قديماً قبل النهضة , بل أن البعض منهم تخصص في العمل خارجه رغم خطورة ما قد يواجهه من مخاطر قُطاع الطرق واللصوص. كل ذلك كان لأجل كسب لقمة العيش حتى تسير عجلة الحياة , ولأن جدة قديماً كانت عبارة عن اربع حواري تاريخية محاطه بسور عتيق , وجدت العديد من القهاوي و المراكيز التي كانت بمثابة المتنفس الوحيد لأبنائها لتبادل الأخبار و تفريج الهموم خارج المنزل. ومنذ قديم الأزل أخذت القهاوي في مدينة جدة بالازدياد تدريجياً رغم صغر المدينة , ومما يوضح لنا ذلك هوا ذكرها من قبل بعض المؤرخين والرحالات الذين زارو المدينة في اوقات مختلفه , فيدل ذلك على اهمية القهاوي والمجالس الاجتماعية لأهل هذه المدينة التاريخية.
وقد ذكر الرحالة عبد الله بن محمد العياشي الذي زار مدينة جدة في عام 1073هـ ان في جدة مقاهي ومجالس حسنة يبالغ أصحابها في كنسها وتنظيفها ورشها بالماء , وفيها يجلوس غالبية أهل البلد. كما اشار الرحالة السويسري لويس بوركهارت الذي زارها في عام 1814م ان المدينة تحتوي على 17 قهوة , تُشرب فيها القهوة بإفراط ويدخن بها التبغ و أن من عادات السكان أن يدعو أصدقاءهم إذا مروا بهم في المقهى إلى فنجان من القهوة وأنهم يشعرون بالاستياء الشديد إذا رُفضت دعوتهم , وذكر ايضاً أن رواد المقاهي يزاولون فيها بعض الألعاب مثل الداما وغيرها. بينما ذكر اللواء ابراهيم رفعت باشا الذي زار جدة عام 1901م في كتابه مرآة الحرمين ان عدد القهاوي في جدة 40 قهوة و ان اهلها مغرمون بشرب الشاي والتبغ. اما المؤرخ أحمد الحضراوي الذي عايش المنطقة في نفس الفترة تقريبا فقد ذكر بأن عدد مقاهي جدة يصل إلى نحو المائة.
وبنظرة سريعه الى ذلك الماضي الجميل نجد أن القهوة والمركاز شاهدان على الكثير من الأحداث التاريخية للمدينة والقرارات المهمه للبعض , حيث أن بعض القهاوي كانت مقراً لتجمع بعض ابناء الطوائف العامله في عدد من الدوائر والمنشئات القديمه يذكر منهم على سبيل المثال القهاوي المعروفة بتجمع : الأُدباء , البحارة , الحرفيون وغيرهم الكثير من اطياف المجتمع. ويمكن تعريفها على انها المنبر الأجتماعي الذي يجتمع فيه الناس لمعرفة أحوالهم و أخبار العالم بالإضافة الى شرب القهوة , الشاي أو الشيشه. وقد اكتسبت القهوة قديما مكانه مهمه في نفوس ابناء المدينة حيث أنها كانت و مازالت احد الأماكن المفضله للقاء الأصدقاء ولذلك أنتشرت في جدة القديمة بشكل كبير في القرن الماضي حتى لايكاد أن يخلو زقاق او برحه منها. ويُعرف الأستاذ أمين ابو سبعين ان المقاهي قديماً انقسمت الى نوعين : النوع الأول هو القهوة العايديه وتُعرف بكراسيها الفرديه التقليديه وتتواجد في جميع ارجاء الحارة. و النوع الثاني هو المقهى ويعرف بكراسيه الشريط الكبيره وتتواجد في الأماكن الواسعه , فمن الصعب تواجدها في الأزقة الصغيره نظراً لكبرها و كبر كراسيها , وبصفه عامه تواجدت المقاهي في اطراف المدينة و على طُرق السفر وكان البعض يضطر الى المبيت و النوم على تلك الكراسي الكبيره في حالة الحاجه الى ذلك. و من مسليات القهاوي قديماً واللتي كانت تلاقي إقبالاً من الكبير و الصغير: الراديو الذي كان بمثابة حلقة وصل بين المجتمع المحلي والعالم الخارجي بالأضافة الى الكوتشينة , الضومنه و الحكواتيه , فكان الحكواتي عادة مايجلس في منتصف القهوة ويتجمع حوله جلاس القهوه كي يحكي لهم بعض القصص التاريخيه مثل عنتر ابن شداد وغيره. ويضيف الأستاذ ابو سبعين ايضاً بأن قهاوي جدة القديمة كانت بمثابة مركزاً لمراقبة الداخل و الخارج من الحارة , وفي حال وجود شخص غريب او مشبوه كان يتم ابلاغ العمده بأمره حفاظاً على امن الحارة وسلامة ابنائها. وهذا يعد عادةً جميله و مثلاً يحتدى به لأبناء جدة القدماء في غيرتهم وخوفهم على اهلهم وجيرانهم داخل تلك المدينة الصغيره (جدة القديمة). والجدير ذكره ان تلك القهاوي اشتهرت بمسمياتها نسبة لأسماء ملاكها مثل قهوة القادري , الفتاق , طيره , يماني. بينما البعض الآخر عُرف بسماها نسبةً لطبيعة عمل جلاسها مثل: الجماله , الحمَاره , البنط , وغيرها الكثير.
ومن ناحيه اخرى عُرفت المقاعد و المراكيز قديماً , فيمكن تعريف المقعد على انه جلسه داخليه في احد البيوت وغالباً مايكون في الدهليز بالقرب من باب الزقاق (باب البيت الرئيسي) , اما المراكيز فيمكن تعريفها على انها جلسات خارجيه عادة ما تكون كراسيها من الكرويته , الكراسي الشريط او الدكه , وقد انتشرت في مدينة جدة قديماً في البرحات و الأزقة وكانت تقريباً تتوفر بها خدمات القهوة مثل الشيشه والمشروبات وبعض المُسليات. ويمكن القول بأن اغلب المراكيز كانت تقوم بنفس دور القهوة عدا انها مقتصره على فئه معينة من الجلاس او الأصدقاء وعادة ماتكون من بعد صلاة العصر حتى العشاء. اما عن اماكن تواجدها , فغالباً ماتكون امام بيت صاحبه او في اماكن معينة في الحارة. وفي ظل واقعنا الحالي اختفت اغلب المراكيز نتيجة توسع المدينة و اختلاف طبيعة سكانها , ومع ذلك مازالت بعض الأحياء القديمة محافظةً على هذه العاده الجميلة. كذلك مازال بعض ابناء المنطقة التاريخية متمسكين بتلك المراكيز و مجالسة اصدقائهم بشكل يومي رغم انتقالهم للأحياء الجديدة الشماليه. فمازلت اذكر والدي حفظه الله وتردده لسنوات طويله بشكل يومي لمركازه في حارة البحر الواقع على برحة النمر امام بيتنا الكبير رغم بُعد المسافه ومشقة الوصول بين ابحر الجنوبيه وحارة البحر الى ان توقف بعد ان اصبح الوصول الى الحارة شبه مستحيل بسبب سيارات التجار اللتي تعيق الوصول الى الحارة و ندرة المواقف , ولذلك اكتفى حفظه الله بزيارة احد المراكيز المقاربه للشارع العام في حارة البحر وهوا مركاز الاستاذ احمد افندي. اجمالاً يمكن القول بأن المراكيز قل نشاطها ماعدا في الأحياء القديمه , اما القهاوي فقد ازدادت و اصبحت حالياً تقدم خدمات جديدة عديدة من ابرزها: جلسات مكيفة , التلفزيون والذي ينقل بعض القنوات المشفرة , ايضاً الانترنت لجذب الزبائن بالأضافه الى المأكولات والمشروبات بأنواعها. وقد شهدت المدينة ايضاً وجود الكافيهات وهي اقرب الى القهاوي غير انها لاتوفر الشيشه أو الدخان بأنواعه مع تقديم العديد من انواع المشروبات الساخنة مثل الكابتشينو وغيره.
تلك هي بعضٌ من صور الحياة القديمة بين القهوة و المركاز التي عاشها الاباء و الاجداد للتنفيس عن همومهم و التخفيف عن متاعبهم. ولذلك نحمد الله كثيراً على ما اكرمنا به من نعم و خدمات و تطور حضاري وعمراني في ظل قيادتنا الحكيمة.
[email protected]

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *