انحسار سياسة القطب الواحد

Avatar

[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]شادي جابر[/COLOR][/ALIGN]

يبدو أن العالم على مشارف أزمة سياسية عالمية إلى جانب الأزمة المالية التي تعصف الآن بالمعمورة من أقصى غربها إلى أقصى شرقها ومن شمالها الغني إلى جنوبها الفقير.ولعلّ تداعيات الأزمة المالية العالمية تشكل إحدى الأسباب المباشرة لهذه الأزمة السياسية التي بدأت معالمها بالظهور، لكن المسبب الرئيسي لحدوثها يكمن في الفشل الذريع للنظام الدولي الجديد -الذي ساد بعد انهيار المعسكر الاشتراكي- في الحفاظ على الأمن والسلم والاستقرار في العالم. ذلك أن سياسة القطب الواحد التي جعلت الولايات المتحدة تتفرد بصنع القرار السياسي الدولي، لم تنتج سوى الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. فضلاً عن تسببها ببروز قوى ومحاور في العالم ترفض هذا الخط السياسي القائم على الهيمنة والازدواجية وغياب التوازن.
استراتيجية الحروب الاستباقية التي تبنتها إدارة جورج دبليو بوش بعد الحادي عشر من سبتمبر تحت ذريعة محاربة الإرهاب وما رافقها من سياسات حصار وضغوط وتهديد.. لم تجلب الأمن والسلام والاستقرار للعالم ولم تقضِ على الإرهاب والعنف ولم تنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط كما كان منظروها والقائمون عليها يعدون شعوب العالم.. إنّ ما حصل هو العكس تماماً.. أزمات سياسية واقتصادية ومالية.. بؤر توتر وصراعات وحروب أهلية كادت أن تنشر الفوضى في بقاع شتى من الشرق الأوسط والعالم، لولا رحمة الديمقراطية الأمريكية التي أراحت العالم من بوش والمحافظين الجدد.
لا شك أن العالم قد تنفس الصعداء مع رحيل هؤلاء، وساد شعور من الأمل بمناخ دولي أفضل بعد مجيء الرئيس باراك أوباما، لكن فشل الولايات المتحدة في قيادة العالم سياسياً واقتصادياً أفقدها ذلك التأثير الذي ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية عام 1945، قبل أن يسود تقريباً بعد تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 وانهيار المنظومة الاشتراكية بعد ذلك.. وبالتالي فإن قيادة أمريكا للنظام الدولي الجديد لم تعد مثار جدل فحسب، بل يمكن القول إن سياسة القطب الواحد في طريقها إلى الانحسار عن الخارطة السياسية في العالم لا سيما بعد بروز أقطاب جديدة على هذه الخارطة كروسيا والصين والهند وتركيا وإيران، إضافة إلى أقطاب أخرى في أمريكا اللاتينية.إيران التي تعرضت لضغوط من الولايات المتحدة ودول الغرب، وفرض مجلس الأمن ثلاث حزم من العقوبات عليها.. تمكنت مؤخراً من فرض أجندتها على الولايات المتحدة والقوى الكبرى، فبعدما كانت واشنطن تشترط لقيام أي حوار مع بلاد فارس وقف جميع أنشطتها النووية بما في ذلك عمليات تخصيب اليورانيوم، ها هي الآن تمد يدها لها، وتقبل بالحوار غير المشروط معها، بل ويرسل سيد البيت الأبيض التهاني لها في عيد النوروز. أما كوريا الشمالية فقد ردت سريعاً على قرار إدانتها في مجلس الأمن، بعدما استفزها الأخير بإصدار قرار يدين تجربتها الصاروخية الأخيرة.
أما مجلس الأمن فقد سجل مستويات عالية من العجز عن حل الأزمات ووضع حد للأزمات والصراعات والحروب. وأصبحت ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين أو أكثر مفردات مألوفة تماماً في قاموس هذا المجلس، لا سيما بعدما أخفق في ثني الولايات المتحدة عن غزو العراق عام 2003، وفي إلزام إسرائيل وقف أطول حربين شنتهما في تاريخها، الأولى في يوليو 2006 على لبنان، والثانية في ديسمبر 2008 على قطاع غزة.
هذا المجلس سيسجل مزيداً من الإخفاقات طالما بقي عاجزاً عن تنفيذ القرارات التي أصدرها وفي مقدمتها القرارات المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي. وطالما ظلّت الولايات المتحدة تفرض أجندتها ورؤيتها على بقية الأعضاء الدائمين والمؤقتين من خلال استخدامها الفيتو مراراً وتكراراً لتعطيل صدور أي قرار لا يتناسب مع سياساتها العرجاء التي انتهجتها طوال العقود الماضية.
لا شك أن طموحات بعض الدول لامتلاك التكنولوجيا النووية ستبقى طموحات مشروعة تماماً، ولن تنجح الدول الكبرى في منع إيران مثلاً من امتلاك هذه التكنولوجيا طالما أن إسرائيل وباكستان والهند.. وغيرها من الدول الكبرى تمتلكها، ليس فقط للاستخدام السلمي في توليد الطاقة النظيفة وغير ذلك.. بل أيضاً للأغراض والاستخدامات العسكرية، خاصة وأن هذه الدول تمتلك قنابل ورؤوسا نووية قادرة على محو جميع مظاهر الحياة على سطح المعمورة.
لن يكون بمقدور الدول الكبرى أن تفرض على إيران أو كوريا الشمالية الالتزام بفتح منشآتها أمام مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية طالما أن إسرائيل ترفض فتح منشآتها أمامهم، بل وتمتنع أيضاً عن التوقيع على معاهدة حظر الانتشار النووي.
لا شك أن واقع النظام الدولي الراهن لم يعد مقبولاً، والمطلوب نظام دولي جديد يبتعد عن الوصاية وفرض الشروط والإملاءات.. ليقوم على الحوار والتعاون والتعدد والتوازن ويأخذ بعين الاعتبار مصالح وسيادات جميع الدول والشعوب، ويعترف بحقوق هذه الشعوب في التحرر من الاحتلال والاستبداد وتقرير مصيرها واختيار نُظمها السياسية الديمقراطية الملائمة، لا بل يدعمها ويساندها حتى تحقيق ذلك.إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما مرشحة لمواجهة تحديات وأزمات وانتكاسات سياسية في أكثر من منطقة على امتداد العالم بسبب الخلل الكبير القائم في النظام الدولي الراهن والفوضى التي ساهمت في إنتاجها الإدارة الأمريكية السابقة ومحافظوها الجدد.
ولعلّ أوباما يعي ويدرك جيداً هذه الحقائق بما يمتلك من رؤية وإرادة سياسية تقدّم الدبلوماسية على المواجهة وتبادر إلى فتح الحوار بدلاً من التصعيد والحصار والضغط. ويمكن في هذا السياق رصد مجموعة إشارات أرسلها الرجل خلال الفترة الماضية فيما يتعلق بالتغيير الذي ينشده على الصعيدين الداخلي والخارجي، أهمها ما جاء في خطاب تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة وتصريحاته الأخرى حول رؤيته للدور الأمريكي على المستوى الدولي.
لا شك أن الحديث عن قرب انحسار سياسة القطب الواحد أصبح ملحّاً ومشروعاً، لكن معرفة مدى التغيير الممكن إحرازه في السنوات القليلة المقبلة تبقى في إطار التكهنات، نظراً للتركة الثقيلة من الأزمات التي أورثها بوش والمحافظين الجدد لإدارة أوباما وللمجتمع الدولي ككل، والتي تمثل عقبات حقيقية أمام السير قدماً نحو بناء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، لكنها تشكل في المقابل فرصة لإقامة هكذا نظام يكون أقل انحيازاً وهيمنة وازدواجية، وأكثر تكافؤاً وتوازناً وعدلاً.

عن الراية القطرية

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *