العرب .. والنموذج الكوري

Avatar

[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]د. علي محمد فخرو [/COLOR][/ALIGN]

لماذا استطاعت كوريا الجنوبية خلال ستة عقود فقط من زيادة معدَّل دخل الفرد الكوري الذي كان في أواسط الخمسينات من القرن الماضي يراوح حول أربعة وستين دولاراً ليصبح الآن نحو عشرين ألف دولار؟ لماذا استطاعت أن تنتقل في تلك الفترة الوجيزة من دولة زراعية متخلّفة لتصبح الآن إحدى الدول الصناعية المتقدمة على مستوى العالم كله، بما فيها امتلاك شركات عملاقة عابرة للقارات في مجالات صناعية تمثل عصب الحياة العصرية، من مثل تكنولوجيا الإلكترونيات والعلوم الحياتية وكل وسائل التواصل الإلكترونية ؟ لماذا استطاع ذلك البلد بمساعدات أمريكية متواضعة، لم تزد على ستين مليار دولار خلال ثلاثين سنة امتدت من عام 1946 – 1978 ،بناء أسس تلك النهضة الاقتصادية بحيث إنها قلبته من بلد يستجدي مثل تلك المساعدات الأمريكية إلى بلد يقدم المساعدات للآخرين ابتداء من عام 2009؟
تلك كانت أسئلة طرحتها في ندوة عقدت مؤخراً في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية حول التعاون الكوري الشرق أوسطي عندما دعيت للتعليق على ما قاله عدة متحدثين حول موضوع التبادل الثقافي لبناء الجسور بين كوريا وهذه المنطقة .
لقد لفت نظري أن المتحدثين ركًّزوا جلًّ اهتمامهم على الجوانب المظهرية والتجارية للعلاقات الثقافية: تبادل الأخبار والأفلام والصحف، تنشيط ترجمة الكتب المهمة من وإلى اللغتين العربية والكورية، تشجيع السياحة، تبادل الزيارات من قبل الأساتذة والطلبة والباحثين، الخ . . من المقترحات التي لا تمسُّ جوهر الموضوع الثقافي .
جوهر الموضوع يظهر جلياً عندما نقابل الأسئلة السابقة الذكر بشأن كوريا الجنوبية بطرح أسئلة مماثلة عن منطقتنا العربية بصورة عامة .
خلال تلك العقود الستًّة واتت الدول العربية فرصة تاريخية عندما وصل الدخل الإجمالي عبر فترة وجيزة عدة تريليونات من الدولارات . كان باستطاعة تلك الأموال أن تنقل على الأقل بعضاً من أقطارنا العربية من دول زراعية متخلفة إلى دول صناعية متقدمة، ومن اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي معرفي، تماماً كما فعلت كوريا الجنوبية، وفعلته بمساعدات واستثمارات محدودة للغاية إذا قورنت بمداخيل البترول والغاز العربيّين .
لنأخذ مثالاً آخر . إن الإنسان يتوقَّع أنه بعد وجود الثروات في بلاد العرب عبر سبعة عقود تقريباً أن تكون لدينا إمكانات علمية وبحثية ، في الوقت الذي نجحت فيه كوريا في بناء شركاتها العالمية العملاقة كما ذكرنا سابقاً، ونجحت في أن تكون الخامسة على مستوى العالم بالنسبة للأبحاث التنموية والتطويرية في العلوم والتكنولوجيا .
تعاملنا مع موضوع التبادل الثقافي، إذاً، يجب أن ينطلق من الإجابة عن كل تلك الأسئلة . وفي اعتقادي أن الإجابة ستشير إلى موضوع الاختلاف في ثقافة الجهتين . عندهم وجدت ثقافة أدت إلى بناء نظام تعليمي يعد من بين الأفضل في العالم، بالرغم من بعض نواقصه، والذي بدوره جعل مستوى تعليم الفرد هو أساس المنافسة والفرص في داخل مجتمعهم، وهذا بدوره خلق إنساناً مالكاً لسلوكيات العمل الجاد والانتظام واحترام الوقت والالتزام الضميري تجاه الإتقان والجودة في ميادين العمل والنشاطات الإنسانية الأخرى . عندهم وجدت ثقافة سياسية جعلت من سلطات الدولة أهم محرك للنهضة الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية البحثية .
أما الثقافة عندنا فلا حاجة لذكر الكثير من مشكلاتها والتي كتب الكثير عنها، وكان من نتائجها الفشل في بناء التنمية الاقتصادية، وكذلك في حقول التطوير التربوي والعلمي والبحثي، طالما أن المستوى العلمي والجهد الفردي المنتج لا قيمة لهما . المقارنة تحتاج إلى كتب ولا يمكن حصرها في مقال . لكن المهم أن أية مقارنة بيننا وبين الآخرين لا تعالج المسألة الثقافية ستكون جهوداً ضائعة تنتج تبادلات مادية مؤقتة وعلاقات معنوية ضحلة، ولا تنتج تفاعلاً ثقافياً عميقاً مفيداً للجهتين، وإنما ستظل تدور في عالم التبادل الثقافي الذي لن يكون أكثر من تبادل تجاري سلعي تحت مسمَّى الثقافة .

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *