الصراع على «تركة الرجل الأمريكي المريض»

Avatar

[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]عريب الرنتاوي[/COLOR][/ALIGN]

ثمة ما يدعو للاعتقاد، بأن نزاعاً محتدماً يدور في السر غالباً، وفي العلن أحياناً، حول \”تركة الرجل الأمريكي المريض\” في الشرق الأوسط، إذ لا يكاد يختلف اثنان على أن الدور الأمريكي في هذه المنطقة، والذي بدأ في أواسط الخمسينيات، وتكرس بعد سقوط جدار برلين، يشهد واحداً من أكبر، وربما آخر، انحداراته المتسارعة…ولقد جاء إعلان الرئيس الأمريكي عن سحب آخر جنوده من العراق أواخر السنة الحالية، ليدشن هذا الخط الهابط لسيطرة الولايات المتحدة ونفوذها في المنطقة.
أمريكا، سلّمت العراق لإيران، ومن دون قطرة دم إيرانية واحدة…وهي تعجز عن حماية \”وكلائها\” و\”سماسرتها\” في مختلف العواصم العربية…أخذها \”ربيع العرب\” على حين غرة…فشلت فشلاً ذريعاً على جبهة المفاوضات والعملية السلمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولم تقو على لي ذراع نتنياهو…والأكثر دلالة على ضعفها، أن الرئيس الفلسطيني الضعيف، الذي يقف على رأس سلطة هشّة، وجد نفسه قادراً على تحدي الضغوط الأمريكية، والاستمساك بمواقفه حتى نهاية المطاف، زمن استحقاق سبتمبر.
خلال أشهر معدودات، ستكون حكومات جديدة قد تشكلت في غير عاصمة عربية…انتخابات ديمقراطية ستأتي بقوى ليست صديقة تقليدياً لواشنطن في تونس ومصر…ليبيا وفي خطاب التحرير تعلن عن \”تطبيق الشريعة\”.
سنكون أمام شرق أوسط جديد، ولكنه ليس من النوع الذي بشّرت به كوندوليزا رايس…إنه شرق أوسط، أكثر نفوراً من الولايات المتحدة وسياساتها…لا أنها تنحاز تقليدياً للدولة المارقة والخارجة على القانون الدولي (إسرائيل) فحسب…بل ولأنها دعمت أنظمة الفساد والاستبداد .
نجم الولايات المتحدة في المنطقة، وربما زعامتها للعالم إلى أفول…وثمة أطراف عديدة، دولية وبالأخص إقليمية، تسعى في \”تقاسم تركتها\” و\”ملء فراغها\”، إن لم يكن كله، وهو بالطبع \”لقمة\” كبيرة على \”حلقوم\” أي لاعب بمفرده، فلا أقل من الظفر ببعض منه…فما ما يدرك كُلّه، لا يترك جُلّه.
من بين هذه الأطراف، وفي مقدمتها، أوروبا العجوز…التي ينتابها \”حنين كولونيالي \” عميق هذه الأيام، حيث تسعى فرنسا بشكل خاص، لاستعادة نفوذها في تونس، وهي تتقدم الصفوف في الأزمة الليبية، وتحمل الملف السوري على كاهلها، وتجوب به الآفاق، علّها تحظى بإجماع دولي للإطاحة بنظام الرئيس الأسد…فيما تمر روما بما يمكن تسميته \”لحظة ليبية\” بامتياز…أما بريطانيا فعينها على ما يمكن استعادته من مستعمراتها السابقة، من اليمن إلى العراق، مروراً بمصر.
لكن أوروبا، منفردة ومجتمعة (وقلما تجتمع)، ليست مؤهلة لـملء الفراغ الأمريكي…هناك أطراف دولية لا ماضي كولونيالياً لها، تبحث عن موطئ قدم لها في الإقليم ومياهه الدافئة…روسيا التي تتقدم الصفوف كمنافح عن الديكتاتوريات في المنطقة، لا حباً بها، ولكن رغبة في الموانئ والتسهيلات وصفقات السلاح وبعض العقود التي تبقي لها بعضاً من سمات الدولة العظمى…أما الصين، فلا \”سياسة شرق أوسطية\” لها خارج إطار \”التجارة والاقتصاد والمال والأعمال والاستثمار\”…وهي تقيس مجمل مواقفها وتصوغ مختلف سياساتها، من منظور \”ميزانها التجاري\”، والحاجة لإبقائه فائضاً باستمرار. تركيا وإيران، لاعبان إقليميان مرشحان للاضطلاع بدور متزايد في هذه المنطقة…وهما حققتا تقدماً ملموساً على هذا المضمار…تركيا بنموذجها الاقتصادي والديمقراطي، ذي الخلفية الإسلامية، ومن موقعها في قلب العالم الإسلامي \”السني\”، تنتمي إلى المستقبل، وهي مرشحة لتوسيع هوامش ومجالات نفوذها في مختلف ملفات المنطقة وساحاتها، ودورها بعد ربيع العرب، أكبر من دورها قبله…وستكون حليفاً موثوقاً لنظم ما بعد مبارك وما بعد بن علي وما بعد الأسد وما بعد ومابعد….وطموحها يتخطى المنطقة العربية إلى أفريقيا، ولديها ما تعرضه وتقدمه، وتقريباً في شتى المجالات والميادين.
أما إيران، \”دولة المذهب\”، فهي محكومة بحدوده الجغرافية والديموغرافية…ليس لديها نموذج جاذب لا لجهة نظام الحكم ولا لجهة العلاقات الدولية المتعددة والمتوازنة ولا لجهة المنجز الاقتصادي والاجتماعي…نموذجها أقرب للنموذج السوفياتي في أواخر سنواته، وهي تجهد في وضع الحواجز والسواتر التي تحول انتقال رياح \”الربيع العربي\” إلى الداخل الإيراني، على الرغم من إدعاء قادتها، بأن الثورة الإسلامية، قبل ثلاثة عقود، كانت أولى إرهاصات ربيع العرب. وإلى أن تستقيم لمصر قناة، وتتمكن من تجاوز تركة حسني مبارك ونظامه الثقيل، فليس من المتوقع أن تظهر قوة عربية، قادرة على خوض غمار المنافسة على الإقليم…وعلى الأرجح، فإن هذه المنطقة، ستظل مادة لصراعات إقليمية ودولية، فيها وعليها، فضلاً عن صراعاتها الداخلية، إلى أن يستقر خيارها الديمقراطي وتنجح في بناء نمودجها التنموي الخاص، وهي العملية التي قد تستغرق العقد الحالي بأكمله.

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *