الخطراوي: الظالم المظلوم
[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]د. زاهر عثمان[/COLOR][/ALIGN]
ليس هذا العنوان، الذي يتكرر مع نزول الأسى، محاولة لاستدراج إثارة إذ يعلم من يعرف الأستاذ الدكتور محمد العيد الخطراوي، رحمه الله، أنه كان أبعد ما يكون عن ذلك. ولم أبدأ بالعنوان ولكني وجدت وأنا أستغرق في محاولة لاستعادة ما اختزنت عن الخطراوي في ذاكرتي ونفسي مستعرضا مسيرته الطويلة متوقفا عند مراحل ومواقف وكتب، أنه ظالم ومظلوم.
ظل محمد العيد الخطراوي يحتل مكانة خاصة لدى أبناء المدينة المنورة الذين تتلمذ كثير منهم على يديه. إلا أن البعد الأوضح عنه كان اهتمامه باللغة العربية وبالشعر خاصة، بالإضافة إلى المرحلة المهمة في حياته التي قضاها في السلك التعليمي مدرسا فوكيلا ثم مديرا. وكان الدكتور الخطراوي قد استعاد دوره الأستاذي حين حصل على شهادة الدكتوراه التي حظيَت به تشريفا، ولم تضف إليه فيما أضاف لها. وأكمل مسيرته التربوية في إفادة أجيال أخرى كان لها من الحظ نصيب مؤكدا مقولته المشهورة «عشت وسأموت مدرسا». ويُذكر للخطراوي أنه رغم اعتباره في عداد التقليديين بحكم نشأته ودراسته فإنه أخذ بما اقتنع به من تطور وكتب الشعر في حداثة لم تنف ما علق بها من جذور الأصالة، وجزالة لم تفسد التقبُّل العصري. وكتب الخطراوي وكتب دواوين عدة وأبهج العديد من الأمسيات الشعرية وأكد ذلك سيطرة هذا الجانب عليه خاصة وأنه بقي دائما نصيرا للغة العربية الفصحى يذود عنها بقلمه ولسانه.
هنا أصبح الخطراوي مظلوما إذ إن سيطرة الشعر غطت على جوانبه الرائعة التي ربما كان فيها أكثر عطاء من الشعر. ولعل أبرز جانب من جوانب الخطراوي التي قد شغف بها حبَّا وازدانت به مريدا هو اهتمامه بالتراث العربي والإسلامي عموما، وبتراث المدينة المنورة على وجه طاب له التخصيص. وقد مكنَّه ذلك من الإبداع في مجالات عديدة تحت تلك الشجرة الوارفة. فالخطراوي:
فقيه: تجاوز بشاعريته «ولولا الشعر بالعلماء يزري»، وأصدر كتاب «الرائد في علم الفرائض»، الذي ما يزال المرجع الأوضح والأبسط في هذا العلم، كما كان لكتابه «ثلاثيات القرآن الكريم» أثر له قصب السبق.
محقِّق: قدَّم مجموعة متميزة من الكتب عن تاريخ المدينة المنورة والتراث الإسلامي لعل أبرزها «المنهاج السوي في ترجمة محيي الدين النووي للسيوطي»، و»المقاصد السنية في الأحاديث الإلهية» لأبي القاسم المقدسي، و»الفصول في سيرة الرسول» للحافظ بن كثير، و»عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير» للحافظ أبي الفتح محمد بن سيد الناس اليعمري. وكان من أجمل ما حقَّق كتاب «شهي النغم في ترجمة شيخ الإسـلام عارف الحكم» لأبي الثناء الألوسي والذي صدر بعنوان «عارف حكمة – حياته ومآثره». وقد عرَّف بذلك كل من لم يكن يعرف عن عارف حكمت إلا المكتبة السنية التي كانت بجوار المسجد النبوي وأزيلت في غمرة جهل بأهميتها التاريخية والعمرانية.
مؤرِّخ: استطاع أن يوثِّق بجدارة المتخصص وإدراك العالم مراحل مهمة من تاريخ المدينة المنورة، واستطاع أن ينظر بشمولية غير مسبوقة لجوانب متعددة من الحياة فيه. وأقصد هنا كتبه «المدينة في العصر الجاهلي: الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية» و»المدينة المنورة في صدر الإسلام: الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية». وقد مكَّن بذلك الباحثين من إجراء دراسات مقارنة بين العصرين. ولم يستطع الخطراوي باهتمامه الأدبي إلا أن يفرد كتابا خاصا عن «المدينة في العصر الجاهلي: الحياة الأدبية». ويمكن أن يضاف إلى مجهوداته في توثيق تاريخ المدينة المنورة كتابه «مدرسة العلوم الشرعية» والذي وثَّق به تاريخ منارة من منارات العلم مبينا فيه الموقع التاريخي الرائد لها.
وأجدني أضع تحت هذا التصنيف كتبـه التي جمع فيها نتاج بعض أدباء المدينة المنورة فسبق بذلك التاريخ الذي ينسى. ومن تلك «ديوان محمد أمين الزللي» وديوان «عمر بري»، و»عبد الرحمن عثمان: مبدع الشعر ومنجب الشعراء». على أن أبرز كتبه في توثيق التاريخ الأدبي هي كتابه «أسرة الوادي المبارك» والذي أرَّخ فيه لتلك العصبة التي تعدُّ علامة في تاريخ الأدب بالمملكة.
ناقـد: كتب عن دراية وبصيرة، وبتوازن حاد عن شعراء المملكة في كتب عدة منها «شعراء من أرض عبقر»، و» في الأدب السعودي» وكتاب «أدبنا في آثار الدارسين».
كاتب مقالة: كان حضور الخطراوي بارزا في مقالات طرزت العديد من الصحف وتناولت العديد من المواضيع في الأبعاد الكثيرة التي يجيد. وخصص البعض منها مبينا وفاءه لكثير من الأدباء والأعلام حتى لمن اختلف معهم. وقد جمع بعض مقالاته في كتابه «الأفاشير وأضغاث أخرى من القول». وكان للمدينة المنورة وأعلامها التي يحب نصيبا وافرا من مقالاته، كما كان لها ولأدبائها وعلمائها نصيب أوفر في «مقالاته» الإذاعية.
تعمَّدت أن أميل إلى الفنون التي أبدع فيها الخطراوي، ويصبح مع ذلك من نافلة القول إلى أنه لم ينس اللغة العربية في خضم هذه التعدديات فقد كتب دراسات عن تاريخ الأدب «شعر الحرب في الجاهلية بين الأوس والخزرج»، والبنات والأمهات والزوجات في المفضليات وأشياء أخرى. وكتب المسرحية: «أسـد بن الفرات». ولعل جهلـي وغزارة ما كتب هما السبب في احتمال إغفال عناوين لا تقل أهمية من كتبه ودراساته.
الخطراوي هو «كل أولئك» كما قال مرة في مقابلة صحفية في تواضع الواثق. ولم يكن في خوضه تلك العلوم مغامرا وإنما دارسا عارفا فهو متخصص درس الشريعة في جامعة الزيتونة بتونس، ودرس اللغة العربية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ودرس التاريخ في جامعة الملك سعود، ثم درس الأدب والنقـد في كلية اللغة العربية بالجامعة الأزهرية. ونعلم أن الدراسة وحدها لا تصنع مثل الخطراوي الذي كان له جلد العلماء السابقين في عصور ازدهر الحضارة الإسلامية.
هكذا إذاً! فقد ظلم الشعر الخطراوي حين تبختر باعتباره ديوان العرب على الفنون والعلوم الأخرى التي أجاد فجعل رايته أعلى. وإذ يذكر الخطراوي في مقابلة معه أن نفسه قد ظلمته أيضا فإنني أجده ظالما لها. بالغ الخطراوي في إنكار الذات والركون للتواضع رغم حضوره البهي فظلَم، وبالغ في السماح للشعر بأن يقف بجواره دائما فظلَم.. وظلمه زمنه وبعض أهله إذ لم يحسنوا إليه بما يستحق من تقدير، وأجدني آسف على أن رئاسة النادي الأدبي بالمدينة المنورة لم توكل إليه يوما وهو الجدير بها الغني عنها حتى ولو بصفة فخرية. إلا أنني وجدت بارقة من عدل قد لاحت مع إعلان اسمه ضمن الحائزين على الجائزة التقديرية للرواد في تاريخ الجزيرة العربية ضمن جائزة ومنحة الأمير سلمان بن عبدالعزيز لدراسات تاريخ الجزيرة العربية للعام 1427هـ، وهي التفاتة وفاء وتقدير محمود. وأظن غير آثم أن الدكتور الخطراوي كان يستحق أن يكرَّم في المهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية» كأحد رواد المملكة في مجالات اللغة والتاريخ والأدب.
كان أعظم ما بالخطراوي، رحمه الله، محبته للمدينة المنورة فمن معين ذلك الحب كتب وكتب. وحين لاح بارق اللقاء قبل أسبوع كتبت أبياتا عصت لفترة ثم اكتملت حين نويت لقاءه.. ولكني وصلت متأخرا حيث وصل النعي مع الفجر يؤذن برحيل ذلك الأشم. وإذ كان مفترضا أن أقرأها عليه.. قرأتُها علي!
التصنيف: