الحِمْيَة الفكرية
[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]علي بن جابر الفيفي[/COLOR][/ALIGN]
زرت في سنة من السنين شخصا أدين الله بأنه على ضلالة، فأهداني كتبا له، فرآها أحد الأحبة معي فطلبني أن أحرقها فأبيت، وأنا أقول في نفسي، لا يعلم هذا ما أنا عليه من معرفة وتحصين فكري !! وهذا كان مني غروراً وعُجبا واعتداداً بما معي من ضحل الثقافة..وأخذت في قراءة شيء مما في تلك الكتب المشؤومة.. ثم تركتها جانبا وانصرفت لحياتي.. وبعد أسابيع أو أشهر، أمسكت كتابا فقهيا، وفي إحدى الصفحات جاء الكتاب على ذكر الإمام أحمد بن حنبل وبأن قوله في المسألة كذا.. فانقبض قلبي يسيرا، نعم والله أحسست بشيء كالبغض تسلل في قلبي عندما وقعت عيني على اسم الإمام العظيم أحمد بن حنبل!وبعد سطرين، توقفت وبدأت أتأمل ذلك الشعور الغريب على نفسي، ثم تذكرت أنني قرأت في تلك الكتب الضالة نقدا لاذعا لهذا الإمام، ومع أني لم أقتنع بشيء من ذلك النقد إلا أن شؤم ذلك الكلام الذي قرأته قد تسلل إلى نفسي دون أن أعي، أو حتى أن أقتنع.. فاستعذت بالله من شر تلك الكتب، وعاهدت نفسي بعدها على أن أخاطر بأي شيء إلا قلبي، وأن أتجرأ على أي شيء إلا عقيدتي.. ومازلت أدعو لذلك الشاب الذي طلب مني إحراق تلك الكتب.. وأعلم فضل عقله على عقلي..فالحذر الحذر من أي كتاب يُعبث فيه بمسائل العقيدة، فمنطقة القلب والاعتقاد منطقة لا ينبغي التعامل معها إلا بالحذر الشديد، وكم سالت دموع الصالحين خشية من الإضلال في آخر الحياة..
وقد تنشأ في القلب بسبب هذه المطالعات \”الدسائس\”، هذه الدسائس التي أخبر ابن رجب رحمه الله تعالى أنها من أسباب الإضلال قبل الموت، والتي فسّر بها حديث ابن مسعود الشهير: \”.. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار.. فيدخلها!!\” والعياذ بالله..
يجب أن نحفظ قلوبنا أعظم من حفظنا لأجسادنا، هذه الأجساد التي نعرّضها للحِمْية الغذائية حتى نحفظها، لا بد أيضا أن نعرض قلوبنا لحمية فكرية، فلا نقرأ أي مقالة، ولا نطّلع على أي كتاب، ولا نستهين بأي شبهة، فقد بكى بعض الضُلاّل من علماء الكلام بكاء حارا عندما سمع عامّيا يقول: لا إله إلا الله.. فقال ذلك العالم: أومن قلبك تقولها ؟ قال: نعم؟ قال: أمعتقد بها؟ قال نعم، فبكى ذلك العالم بكاء شديدا وقال: أما أنا فلا أدري ما أعتقد! نعوذ بالله من الزيغ..
فلا بارك الله في ثقافة تخدش نقاء المعتقد، ولا في اطلاع وتوسّع فكري يؤثر على صفاء القلب، فالماء مهما كان نقيا إذا ما سُخّن بالعذرة حمل شيئا من خصائصها، وإن كانت رائحتها النتنة.. فكيف بقلب فطره الله على الإيمان، ثم هو يقرأ كلاما يناقض الإيمان الحق، ويتردد على شبه قد آلت بالبعض إلى الانحراف التام، أولا يخشى على نفسه من شيء من ذلك؟
وإن للمتأمل دليلا على فساد مثل هذه الاطلاعات، وعدم رضا الرب عنها من واقعه، فبالله عليك هل تجد لذة في قراءة كتاب الله تعالى بعد انتهائك من قراءة كتاب فكريّ، سوّد فيه مؤلفه أوراقه بذكر فلسفات كافرة، وأقوال منحرفة، حتى وإن أتى على نقضها وردّها، فكيف إن جاء بها في سياق التأييد؟ ألا يخشى المؤمن الورع أن يكون في اقتنائه لهذه الكتب، وتربيح ناشيرها ومؤلفيها ركونا للذين ظلموا ؟ ألا يخشى أن تمسّه نار الفتنة؟
يقول مصطفى السباعي في كتابه (هكذا علمتني الحياة) ما معناه: أن أي كتاب تقرأه يشقّ في عقلك مسارباً وممرات قد لا تُمحى أبد الدهر فلينظر القارئ ما يقرأ ولمن يقرأ..أعلم أني أطلت، ولكن القضيّة أعتبرها تستحق شيئا من الإطالة، وأتمنى من أهل العلم أن يطرقوا هذا الجانب، ويحذروا من ولع الشباب وانغماس بعضهم في القراءة لأهل الضلالة..
وأختم بقول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ..} [الأنعام : 68] فهذا تحذير لمن نزل على قلبه القرآن الكريم بأن يعرض عن الذين يخوضون في آيات الله تعالى.. أو بعد هذا التحذير من الركون إليهم، والأمر بالإعراض عنهم نستبيح لأنفسنا أن تتضلع من زبالات أفكارهم؟ سؤال أترك إجابته لمن يحب أن يأتي ربه بقلب سليم.
التصنيف: