الجنرال محمد صلاح الدين

Avatar

[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]علي خالد الغامدي[/COLOR][/ALIGN]

* هو جنرال بكل معنى الكلمة، أو بكل ما للكلمة من معنى…حازم، صارم، حاسم كعادة الجنرالات لكنه مُنصف، متواضع، يحب العمل الجيد، ويحترمه، ويُقدره… إنه استاذنا الكبير محمد صلاح الدين…أول (مواجهة) حقيقية مع الجنرال كانت بسبب تقرير صحفي كتبته عن التقرير السنوي الذي تُصدره مؤسسة النقد العربي السعودي.كنت ضمن عملي الميداني أمر على المديرية العامة للثروة المعدنية بشارع المطار القديم، وعلى بُعد خطوات مبنى مؤسسة النقد فقررت أن أمر عليها لعل فيها من الأخبار الصحفية ما يزيد من (غلتي) اليومية..دخلت مباشرة لمكتب المراقب العام الأستاذ عبدالوهاب شيخ، وأبلغني أن التقرير الجديد على وشك الصدور، وأعطاني نسخة من التقرير المالي المنصرم..
ولأنني (جاهل) بأمور المال، والاقتصاد فقد كتبت تقريراً صحفياً عن التقرير الذي معي، ودفعت به للنشر، ونشر فعلا…
وأثار ذلك المسؤولين في المؤسسة، وطلب مني الجنرال أن اذهب للمراقب العام، وأعتذر، وركبت رأسي، ولم أذهب فأصدر الجنرال قراراً إدارياً بحسم ثلاثة أيام من راتبي، وكان ذلك شيئاً مزعجاً للغاية، وعندما ركبت رأسي أكثر تضاعف الحسم، واشتكيت لزميلي، وصديقي الذي كان يرافقني في بداياتي الصحفية محمد صادق دياب رحمه الله فناشدني الصبر، وصبرت فقد كان ركوبي لرأسي مرة ثالثة يعني قطع علاقتي بالصحافة مُبكراً…
وأذكر للجنرال حادثة طريفة تستحق أن تُروى…
كنت قد دخلت مع مدير إدارة حيوية مرحلة (نزاع).. وتأكدت الجريدة أنني على حق فكتبت مقالاً (عنيفاً للغاية) أرد فيه بقسوة، وقوة، أو بقوة، وقسوة على مدير الإدارة فطلبني الجنرال في مكتبه، وأشار بأصبعه على اسم مدير الإدارة، وطلب أن تسبقه كلمة (الصديق).. ونشر المقال، ولم يحدث مشكلة..
وقد فتح لي ذلك أبواب الكتابة الساخرة بأن تقول ما تُريد دون أن تجعل من الآخرين أعداء لك، وإن كان ذلك لا يمنع أن الكتابة الساخرة تُغضب كثيراً من المنتفعين، والمتسلقين، والفارغين…
ومن حسن حظي أنني تتلمذت مبكراً على كتابات المازني، والحكيم، وفكري أباظة، وهم علامات هامة في مجال، ودنيا الكتابة الساخرة، الساحرة ليمنحني الجنرال تأشيرة دخول لهذا العالم (على أن أتحمّل وحدي النتائج العكسية الحمقاء لهذا النوع من الكتابة).
في عُهدته:
لم أدخل (عالم الصحافة) بإرادتي، أو بدون إرادتي ففي المرة الأولى كنت قاب قوسين، أو أدنى من (سورها العالي).. وفي المرة الثانية كانت (الأسلاك الشائكة) تخيفني من الاقتراب منها. وبين المرتين ثلاث سنوات لكنني أعترف أنني الذي طلبت يدها، ولم تطلب هي يدي فالصحافة هي العروس، ومن يطلبها كثيرون لكنها لا تقبل كل من (هب، ودب).. أو هكذا كنت أتصور، ولذلك أرهقتني وهي في عصمة والدها الشرعي، ثم أتعبتني وهي في عصمة عشرين والداً كلهم يقولون أنهم آباؤها..
زحفت إليها وهي صحافة أفراد أحاول نشر مقال صغير، أو تحقيق، أو قصة (وكلها لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة) إلى أن جمعني الفتى العصامي المثقف عبدالفتاح أبو مدين بعميد الكتابة الرشيقة عبدالله مناع. على باب مكتبه قال رأيه في القصة العاطفية الوحيدة التي كتبتها، وقتلت فيها البطل والبطلة. ألقى المناع على مسامعي نصيحة بأن أكون رحيماً بأبطالي وبطلاتي في المرات القادمة، وهكذا بدأت الحكاية كما يقول صديقنا الجميل محمد علوان.
عندما كنت طفلاً كانت تداعب أحلامي أن أكون (لاعب كرة قدم) يدوي التصفيق في أذنيه (إذا سجل هدفاً) فبجوار بيتنا في حارة البحر كان (حوش القنصلية الهندية).. وكان نجوم حارة البحر يلعبون فيه كرة القدم بموافقة من رجال القنصلية -رغم أنهم لا يعلبونها- وكنت إذا وجدت فرصة ذهبت لمشاهدة هؤلاء النجوم، وكان منهم الجوهرة السوداء سعيد غراب – الذي لا تنساه كرة القدم الجداوية، وايضا المدفعجي الشهير حسن مجلجل، وكان المجلجل إذا (شات) الكرة هز حوش القنصلية بالكامل، وكنت أخاف منه، وبالمقابل كانت عيوني تتجه للجوهرة السوداء (الذي كنت أراه يبكي إذا خرجت الكرة من قدميه). وبعد ذلك، اي بعد سنوات قليلة من انتقال سكننا من حارة البحر (شقلب) كياني مدرس اللغة العربية الأستاذ سلطان الذي منحني مع ثلاثة من زملائي ونحن في نصف العام الدراسي – وكنا في سنة سادسة ابتدائي – جائزة التفوق في التعبير، وحصلت مقابلها على (ستة أسهم) من المقصف المدرسي (كل سهم قيمته ستة ريالات) كانت بمثابة حدث تاريخي بالنسبة لي جعلتني إذا مشيت من المدرسة، إلى البيت الجديد أكاد أروي للمارة -لولا صغر سني- أخبار هذه الجائزة.
هذه الجائزة (لعبت برأسي) فأنا الصامت في البيت (صمت أبو الهول) أعرف الكلام، وأجيد التعبير، وأفوز به في جائزة صفقت لها المدرسة السعودية الابتدائية من أعلاها، إلى أدناها، وليس العكس. وكانت النتيجة أن هذه الجائزة -دعمت- رغبتي في الاتجاه للصحافة، أو الزحف إليها فقد قرأت لطه حسين، والعقاد، والمنفلوطي، ولطفي السيد، وجاءت الجائزة لتدعم موقفي في الاستمرار، ورغبتي في الالتحاق بعالم الصحافة (الذي كنت أظن وأنا بعيد عنه أنه عالم يضم الملائكة فقط) إلى أن ألقى بي الزميل الأستاذ عبدالقادر شريم في أحضان صاحبة الجلالة، وبالتحديد في (عُهدة الأستاذ القدير محمد صلاح الدين الذي كان يقول عنه الزيدان (هذا رئيس تحرير غير متوج).. وبدل أن ألعب بقدمي لعبت بيدي (والفرق بين الحالتين كبير جداً لكنه ممتع للغاية) رغم أنك في الحالتين يمكن أن تنام على الرصيف.
وبدل أن تتكسر (النصال على النصال) تكسّرت أجزاء كثيرة من أحلامنا، وأجزاء قليلة من عظامنا (وكان المطلوب العكس: أن تتكسّر الكثير من عظامنا، والقليل من أحلامنا) حتى لا يكون لنا وجود على الإطلاق، والحمد لله أن هذا لم يحدث..؟
وقد نجحت صحافة المؤسسات فيما فشلت فيه صحافة الأفراد حيث كسرت ضلوع كثير من المبدعين بينما كان يقال لنا – ونحن على أعتاب صاحبة الجلالة – أن صحافة المؤسسات – جاءت لتنقذ هؤلاء المبدعين من (مزاج) أصحاب صحافة الأفراد (وهو أمر إن كان صحيحا) إن الوضع صار أسوأ وأسود في عهد صحافة المؤسسات وأملك عشرات الأدلة، والشهود على ذلك فأنا ابن صحافة المؤسسات، وأحد الذين أتيحت لهم فرص التعرف – عن قرب – على كثير من الوجوه السوداء، والبيضاء ولذلك فإن شهادتي ليست مجروحة…
وفي أحضان صاحبة الجلالة تتعلّم (عدة لغات حية) منها (لغة الكذب، والنفاق، والتضليل) وكلّما أجدت لغة من اللغات تفتح باباً من أبوابها الحديدية، ولم يسلم من (تعلّم) هذه اللغات أحد (بإرادته، أو بغير إرادته)!!
وقد أبلغني أحد رؤساء التحرير المحترمين مرة فيما يشبه الأمر، وليس النصح (إن من يريد أن يشتغل في مهنتنا عليه الإذعان لاحدى هذه اللغات الثلاث) واعتبرت من جانبي هذا (الفرمان) بمثابة إنذار بكر (إما للاستمرار، أو للرحيل، وقد جمعت بينهما بصعوبة بالغة تشبه الى حد كبير من يطلب منه السباحة في بحر لجي وهو لايعرف أبسط قواعدها)..
أنا، والنجوم.. والمايسترو:
كان يوماً عصيباً – بكل المقاييس – كما يقول صديقنا المعلق الرياضي إبراهيم الجابر، عندما يعلق على مباراة في كرة القدم بين الهلال والنصر فيقول هذه مباراة كبار بكل المقاييس..
بالنسبة لي كان أول يوم لي في بلاط صاحبة الجلالة عصيباً بكل المقاييس..
العربون، أو المهر المطلوب دفعه للبقاء داخل هذا العالم أن أحضر أخباراً من الإدارات الحكومية وأنا لا أعرف أحداً من المسؤولين في مدينة جدة، كما لا أعرف كيف أكتب هذه الأخبار.
لجأت للمأذون الشرعي الذي قام بعقد قراني على صاحبة الجلالة (وكنا نعمل معاً في مكتب البرقيات التابع لوكالة وزارة البرق والبريد والهاتف، وهو في القسم الخارجي، وأنا في القسم الداخلي)، فطلب مني الاطلاع على البرقيات المتبادلة بين الإدارات الحكومية، والتي تحمل مواعيد الاجتماعات بين مندوبي هذه الإدارات لدراسة اقامة مشروع ما،أو مناقشة مشروع ما. والمطلوب مني – كما يقول المأذون الشرعي – أن \”اخطف\” من هذه السطور أخباراً، وبعد ذلك انطلق نحو الإدارات الحكومية لجمع الأخبار، والتوسع فيها..
سألت صديقي وزميلي عبدالقادر شريم: وكيف أسند مصادر هذه المعلومات؟ فقال: تبدأ كتابة الخبر بالطريقة التي تنشرها الصحف: علمت، ومن المنتظر، ومن المتوقع إلى أن تصل للمسؤولين، وتكسب ثقتهم فتستغني عن معلومة البرقيات، وتعتمد على معلومة المسؤول، وتذهب بحصيلتك الصحفية الى الجريدة، وكلما كانت الحصيلة وافرة، والمعلومات صحيحة تحسنت أحوالك المادية، وحصلت على الشهرة..!
كانت الأحداث الصحفية – على أيامنا – لا تزيد عن سفلتة شارع، او توسعته، أو فتح مستوصف، أو تجديده، أو اضافة قسم في مستشفى، أو تجميل ميدان عام، أو اقامة نافورة، أو حديقة صغيرة، أو إنشاء أعمدة إنارة، أو مكافحة الجراد، أو القضاء على الكلاب الضالة، أو حضور مناسبات تخريج من المعاهد الصحية، والمهنية، أو تغطية أسابيع الشجرة، والمرور، والنظافة (وهي أشهر أسابيع التوعية)..
وكان كل شيء قريباً سهلاً، وميسوراً، ومفهوماً، ومهضوماً.
فريق العمل كان ممتازاً..
هاشم عبده هاشم كان أكثر رقة، يشعر بأنك – على وشك – أن تصبح شخصاً مهما في هذا الميدان المعقّد، فإذا تركته راودك الحنين إليه مرّة أخرى..
وهو صاحب مدرسة في العناوين الصحفية الراقصة تطرب لها العين..
سباعي عثمان كان أكثر تهذيباً، فتشعر وأوراقك بين يديه، وتحت نظارته أنك أمام أديب لا يتعالى عليك، ولديه الاستعداد لتوجيهك..
وقد راجع كتابي الأول: \”السفر إلى عينيك\” مكلفاً من إدارة المطبوعات في جدة..
أحمد محمد محمود أكثر جدية، وسرعة.. يقرأ بيديه قبل عينيه.. يتسلم مادتك الصحفية دون أن يسألك عن شيء، ويعمل بقلمه السريع عليها كل ما تحتاجه من ترميمات، ولا يتأفف من الأخطاء الصحفية فيها، وبعدها يرحب بك فتحبه رغم هذا البطء في الترحيب..
محمد صلاح الدين (المايسترو).. أكثر دقة.. لا يسمح لك بالجلوس، أو الانصراف إذا كانت مادتك الصحفية (يشوبها شائب).. أحضرت مادة صحفية عن الاضرار التي لحقت ببعض المواد الغذائية المكشوفة في ميناء جدة نتيجة الأمطار الغزيرة التي هطلت على المدينة..
وبعد قراءة مقدمة الخبر رفع عينيه باتجاهي، ونهرني: الخبر لا يكتب هكذا، نحن اليوم في بداية الأسبوع، والأمطار هطلت في نهاية الأسبوع الماضي فتكتب الجديد، ثم تقول في النهاية (وكانت قد هطلت مساء الاربعاء الماضي أمطار غزيرة، ولو سمحت لا نريد أخبار جريدة هكذا، فهمت)..
طبعاً فهمت..
فهمت من الصوت المرتفع الذي كنت أسمعه يخرج من يعنيه فتمنيت – لحظتها – ألا أراه في مطابع الشربتلي عندما أحضر ومعي موادي الصحفية، وكانت أمنيتي تتحقق أحياناً، وتخيب أحياناً أخرى، وعندما تخيب ألجأ لصديقي وزميلي محمد صادق دياب فيخفف قليلاً من غضبي، ونؤجل الباقي لأقرب مقهى لمنزله لأنه حسب اتفاقية الصداقة: إذا كانت المشكلة تخصني يختار هو (الملعب)، وإذا كانت تخصه أختار أنا الملعب، وكنا نهدر كثيراً من الوقت في سبيل تحقيق طموحاتنا لنكتشف أننا كنا نلعب في الوقت الضائع (لكن حتى هذا الوقت الضائع كان أفضل من الوقت الاصلي الآن)!!
جامعة صلاح الصحفية:
يضحك صديقنا حسن زين وهو يقول لي: كنت تريد الجامعة، وها أنت في الجامعة (يشير بذلك للترويسة الخاصة بجريدة المدينة التي تحمل تحتها هذه الكلمات: جريدة يومية جامعة)..!
والجامعة التي التحقت بها هي جامعة محمد صلاح الدين الصحفية، وهي جامعة في صرامتها، وجديتها، وأمانتها، ومسؤوليتها تشبه صرامة، وجدية، وأمانة، ومسؤولية معهد الإدارة العامة: انضباط في المواعيد، تركيز في المحاضرات، واحترام لهيئة التدريس ونتائج مرضية – بعد ذلك – للدارسين، وأولياء أمورهم..
وكان إلى جانب عملي في جمع الأخبار في الصباح أحضر في الليل إذا كان هناك اجتماعات لجان، وخبراء، ومسؤولين فأنا المكلف بتغطية – الأحداث المسائية – إلى جانب عمل النهار، وكنت يومها سعيداً للغاية أنني أحضرت وجبة دسمة لاجتماع لجنة تطوير مدن المنطقة الغربية، إضافة إلى لقاء مع وكيل البلديات الشيخ عبدالله السديري، وإنني أنجزت كتابة هذه الوجبة: الخبر، واللقاء وإذا أنا وجهاً لوجه أمام الأستاذ محمد صلاح الدين، وبعد أن وضعت المادتين على مكتبه، وخرجت بسرعة البرق إذا به ينادي علي: أكتب عناوين التحقيق، وأعده لي الآن. وتصبب العرق من جبهتي – ونحن في الشتاء – فلم أتعوّد كتابة عناوين موادي الصحفية إنما أتركها لحرفة، وخبرة الزملاء: أحمد محمود، وهاشم عبده، وسباعي عثمان، بل إنني أتسلل مساءً إلى مكاتبهم، وأترك موادي على مكتب أحدهم، إلا أن حضوري هذا المساء كان متأخراً، ولم أجد أحداً منهم.. أمضيت وقتاً – لا أستطيع تحديده الآن – أكتب، وأشطب إلى أن وفقت في كتابة العناوين، وقدمت المادة كاملة لمدير التحرير (وأنا أرتجف) فهذه عادة التلميذ المجتهد حينما يقف أمام أستاذ صارم، وقد اجتهدت مُرغماً..
دخلت – بعد هذه الحادثة – عالم المسؤولية الصحفية من خلال كتابة العناوين فقد صدر قرار مدير التحرير بتعييني في وظيفة سكرتير تحرير مساعد للشؤون المحلية الى جوار هاشم عبده هاشم (سكرتير التحرير)..
بعد مباشرتي للوظيفة الجديدة تحسنت أحوالي المادية، ولم تتحسن أحوالي النفسية فقد وصل راتبي إلى 1200 ريال بعد أن كان 700 ريال، وعندما عينت في بداية عملي بجريدة المدينة براتب 500 ريال كان الأستاذ عباس عبدالمجيد يمتدح هذه الخطوة التي ساوتني براتب الشيخ مبارك عبيد الذي كان يمدهم ببعض الأخبار الأمنية.

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *