التديين القسري والنفاق المجتمعي (2/2)

Avatar

[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]خالد عوض العمري[/COLOR][/ALIGN]

المجتمع الذي يمارس بعض أفراده أبشع أنواع الإسراف في ولائمهم ومناسباتهم ثم يلبسون هذا المنكر لباساً شرعياً يتذرع بمشروعية إكرام الضيف, هؤلاء المسرفون الذين قد يقضي أغلبهم عمره دون تفقد حاجة جاره الفقير ودون السعي لسد فاقة المعوزين ممن يعرفهم ويمتون له بصلة ولو بما فاض عن حاجته, هذا المجتمع الذي ينجب أفراده الأطفال بالعشرات ثم يكلون تربيتهم للعمالة المنزلية القادمة من أقصى الأرض, هؤلاء الأفراد هم أبناء هذا المجتمع الذي يلوك أفراده صباح مساء مفردات المكاثرة ومفاخرة الأمم والتربية الإسلامية والمسؤولية وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته!! هذا المجتمع الذي يتلو آيات وأحاديث النهي عن الفساد والسرقة والرشوة في كل جمعة ومحاضرةٍ دعويةٍ, هو نفسه المجتمع الذي يشرعن بعضه لهذه المحرمات تحت ستائره اللفظية الكثيرة مثل دهن السير والإكرامية والمعرفة والواسطة, هذا المجتمع الذي يصلي الضحى والوتر ويختم القرآن كل رمضان ويقرأ فيه «إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا, إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم» هو نفس المجتمع الذي يتنفس بعضه العصبيات القبلية والمناطقية والمذهبية, وهو – ويا للحسرة – المجتمع الذي يفرق بعضه بين الزوج وزوجته وأطفالهم تحت دعوى تكافؤ النسب!!!! هذا المجتمع الذي لا يوجد به دور سينما, ولا يمكن إقامة حفلة موسيقية فيه إلا بعد الحصول على التصريح من ثلاثين جهةٍ في الدولة بما فيها وزارة الزراعة! هو السوق الأكبر في الشرق الأوسط من حيث رواج الأفلام السينمائية فيه وهو الأكثر متابعةً للقنوات الترفيهية والغنائية والأكثر إمتلاكاً لها والأكثر إعلاناً فيها, وأفراد هذا المجتمع الذي لا يرى في الأرض مجتمعاً فاضلاً سواه, هم الأكثر سفراً للمجتمعات التي يذمونها بمناسبةٍ وبدون مناسبة وهم وللأسف الشديد يكاد البعض من هذا المجتمع يكون هو الأسوأ سمعةً لدى أهل تلك المجتمعات.هذه الحالة من النفاق المجتمعي لا يمكن أن يصل إليها المجتمع بين ليلةٍ وضحاها, ولا يمكن أن تهبط علينا من السماء, ولا يمكن أن تكون نتيجةً للغزو الفكري الذي أشغلتنا به الصحوة, بل هو زرع أيدينا ونتاج هذا الخطاب المكثف والمتطفل على جميع تفاصيل حياتنا, هذا الخطاب الذي جعل الإنسان وهو يمارس حياته الطبيعية يشعر أنّه يدور في دائرةٍ من المحرمات منذ أن يستيقظ حتى ينام, وهو ما جعل الحياة بهذه السطحية وجعلها خاليةً من المعاني العظيمة, وجعل مناسبات الفرح والسعادة كالحزن لا فرق بينهما.
وربما يعتقد البعض أنّ في هذا الأمر مبالغةً وتحميلاً للصحوة أكبر من وزرها, ولكنني لا أعتقد ذلك, فالأديان في أصلها جاءت لتهذيب الأرواح والبواطن في الأصل, ثم ضبط الأفعال الخارجية وتهذيبها كنتيجةٍ طبيعية لتهذيب الروح, ولذلك يصبح حضور الأديان حينما يتم تشويهها ويتم الاعتماد فيها على بناء الخارجي والظاهري والرفع من قيمته في مقابل الباطني والجوهري أكثر خطراً على المجتمعات من غيابها, وتصبح هي العائق دون التطور ودون الحياة الطبيعية, بينما الدين الحقيقي والنقي هو أعظم الدوافع التي توصل الناس إلى علو الدنيا ورفعتها وعظمتها وسعادتها كذلك, قبل أن توصلهم في نهاية المطاف إلى رضوان الله وجنته. ولذلك كان التديين القسري هو السبب في النفاق المجتمعي, وكان أكثر خطراً من الخطأ والتقصير الذي قد يحصل في غيابه.

Twitter: @knfalamri

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *