البناء المعرفي للمربي

Avatar

[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]مشاري الشثري[/COLOR][/ALIGN]

ها هو ذا يرسم خطة برنامج النادي الصيفي القادم..
نزع ورقةً من دفتره، كتب أسماءَهم بعد أن رتبهم حسب مراحلهم الدراسية، وضع أمام كلٍّ ما يرى فيه نُجحَه ورشاده، عاد إلى خطته وملأ أوديتَها بسيلٍ من الأنشطة الداعمة لهم، زيدٌ يجيد زَبْرَ المقالة، خالدٌ أُشرب حبَّ العلم، فهدٌ مصمِّم ماهر، مالكٌ وزَّع أوصاله على بلاد المسلمين فله مع كل مأساة شجن، فيصلٌ حافظٌ للشعر، وهكذا حتى كتب أمام كل فتى ما يجيده..قلَّب النظر فإذا بالخطة قد امتلأت، سار بكتابته جذلا إلى زملائه المربِّين، قضوا ساعاتٍ في تبييض الخطة وتعزيزها، دفنوا تحت تواريخها تواريخهم، وطووا بأطرافها همومهم وحوائجهم، ومدُّوا جسومهم لتشييد جسرٍ طويل من الآمال..
غيره يرسم خطةَ برنامجه لكنه يرسم خطة برامجهم! تعلم هو ورفاقُه أن السموَّ يكون بالعمل للجمعِ لا للذات، ولا سيما في هذا (الزمان الصعب)، لم يحفظوا من الأدب إلا بيتَ أبي ريشة، فهم به في عذاب..

تقضي البطولةُ أن نَمُدَّ جسومَنا
جسرًا فقل لرفاقنا أن يعبروا
إلى هؤلاء فحسب أكتب هذه المقالة..
تصديرٌ ثانٍ.. الأورَاقُ الصَّفرَاء

ما زال محضن التربية يمد اليدَ السفلى للكَتَبة أملًا في تواتر الأقلام المحسنة، فقد مسَّت المحاضنَ عامّةً جائحةُ الزمان المتقلّب مما يدعو إلى تسليط الضوء على قضايًا آن لها أن تطفو من جديد لتصحح مسارها وتستقيم مِشيتُها..
لا بدّ للتربية أن تلج أبواب التجديد، ولا بد لنواصي المربين أن تتأهّل لمسِّ سُقُفِ الاجتهاد، فما يضير المربي لو كان شافعيَّ التربية وأحمدَها ؟.. اقلب ورقةَ عقودِ التربية الوسطى واكتب نحوَ ما يدعونه (عصور النهضة وأقانيم الحضارة) اكتب: (حضارة التربية ونهضة المربين)! ويحك، اكتب ما تشاء، وأزِلْ – رجوتُك – رسومَ تقاليدٍ طمَّها زمنُ التطوّر..
هذه الكتابةُ لا تمهّد الطريق لقلب هرم التربية واستئنافها من جديد، بل هي استنهاضٌ للمحضنِ التربويِّ أن يجدِّد النظر في لبوسه، ويصطفي ما عسى أن يكون مشرِّفًا يومَ الزينة..ما من وعاءٍ إلا وجُدِّد حبره سوى وعاءِ التربية.. معذرةً معاشرَ الأشياخ من تطفُّل التلاميذ، مرَّت على محاضننا سنونٌ عجاف ورفوفُها مفتقرةٌ إلى كتاباتٍ تعالج مشكلاتنا تحت أضوائنا، غبر علينا زمانٌ ونحن نستعير تلك الأوراق الصفراء من مصرَ والعراق، مرورًا بالشام..
(لا بدَّ من نخل كلام بعض الدعاة وإهدار النخالة، وكلامي وكلام الآخرين يجب أن يخضع لهذا الميزان وبصرامة.. والدرس المهم الذي ينبغي أن لا نغفل عنه في أمر الفكر بخاصة أن الاجتهاد ضرورة، والإبداع محرك، وأن التقليد تراجع، والنمطية قيد، ولذلك يلزم تشجيع الدعاة على البوح بمكنوناتهم، وعلى الحوار، والبحث، والتأليف، ليعمر الفكر الاجتهادي) وها هو الشيخ المربي د. محمد الدويش – وهو يمثل حالة استثناء لوفرة مصنفاته التربوية – يقول ما نصُّه: (رغم أهمية التجربة التربوية في العمل الإسلامي المعاصر إلا أنها لم تلق الاهتمام الكافي بها من الدراسة والتحليل، ولا تزال هناك مساحات بيضاء وشاغرة بحاجة إلى تناولها والحديث حولها) ومن هنا أستجدي ذوي الخبرة من المربِّين ألا يضنُّوا بمكنون رؤاهم وما تحصَّلوه من ميدان عملهم، فمقام التربية كالحرباء، يتجانس مع بيئته، ولا يستصحب حالًا أجنبيةً عنه، وأنتَ مهما أكرهته على التضلُّعِ من زمزمِ غيرِه فلا بد يومًا أن يتقيَّأه، فأطعمه ما يستسيغ، ولقِّنه ما يستطيع، (وعلى الله قصد السبيل)، وقد تكفَّل الله لمن توكَّل عليه أن يكون حسبَه، فقُلْها ولا تخف..
والتصدير الثالثٌ: الواقع ينبئنا عن جفول جمعٍ من المربين من محاضن التربية مما سبَّب شحًّا يستدعي معالجة عاجلة.
تفاوتت الأنظار في سبب ذلك، وبقدرٍ من الاستقراء يعسر ردُّ الأمر إلى سبب واحد لتتوجه له المعالجة، ولكنها حزمة أسباب كوَّنت هذه الظاهرة، منها ضعف المربي وانصرافه عن الدعوة عامة، ومنها ما يرجع إلى انشغاله ببعض أمور دنياه مما أحوجه إلى الإقلال من الأعمال الدعوية، ومنها اشتغاله بثغر آخر من ثغور العمل الدعوي، غير أني أحب تسليط الضوء هنا على أمر بدأت أتلمَّس أماراته وأظنه آخذًا في السريان، وهو ضعف اليقين بمركزية التربية في مشروع بناء الأمة وإصلاحها، وهذا من قلة الفقه بالواقع، وأنت إذا تأملت وجدت محاضنَ التربية معاملَ تصدير دعوي يضخ نتاجه في جميع أودية الأمة من العلم والفكر والاحتساب وغيرها، فهي الكفيلة بتكوين هوية إسلامية للمتربي مع تدعيم انتمائه لأمته، وأذهب إلى أبعد من ذلك فأقول بأن محاضن التربية هي أساسُ البيت الدعوي، ولأن من شأن الأساس التدثُّرَ بما علاه لم يتبين لكثيرٍ من السكَّان عظيمُ دوره في إرساء شاهق الدعوة..
نحن بحاجة إلى تذكير إخواننا بعظيم دورهم، وأنهم على ثغر عظيم ما أشد ضرره لو أُتِينا من جهته، وما أحسن من شبه محاضن التربية بجبل الرماة (سواء أكان ذلك في المكان والمكانة والأهمية، أو الدور الحيوي الذي يقوم به، أو خطورة التفريط في ثغراته، وآثار ذلك على العباد والبلاد.

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *