إنترناشونال سكول
[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]أ.د. محمود نديم نحاس[/COLOR][/ALIGN]
قصتي اليوم عن رجل عربي غادر بلده بعد حصوله على البكالوريوس لمتابعة دراسته العليا في بريطانيا. وكان قد تزوج لتوه، فصحب زوجته في رحلته. وهناك رزقه الله بأربعة أبناء، وُلدوا جميعاً حين كان القانون يعطي الجنسية البريطانية تبعاً لمسقط رأس الوليد، كائناً من كان أبوه، فصار أولاده بريطانيين، وبقي هو وزوجته عرباً.
أنهى دراسته، ورغم توفر الفرص الوظيفية المناسبة إلا أنه لم يشأ أن يبقى في تلك البلاد، لأنه أراد أن يربي أولاده في بلد إسلامي، فوقع اختياره على هذا البلد الطيب المعطاء، فجاء وعمل بجد ونشاط وأدخل أولاده في مدارس عربية مع عناية خاصة بتحفيظ القرآن الكريم حتى يستقيم لسانهم بلغة الآباء والأجداد. وكان زملاء العمل يلومونه على تقصيره بحق نفسه لأنه لم يبق هناك المدة الكافية ليحصل على الجنسية البريطانية، كما لاموه على تقصيره بحق أولاده، قائلين: إن أولادنا لا يحملون جنسية غربية ومع ذلك فقد سجلناهم في مدارس تدرِّس باللغات الأجنبية. وكان يرد عليهم بأن أولاده يستطيعون تعلم اللغة الإنجليزية عندما يحتاجونها كما فعل أبوهم من قبلهم، ثم يسألهم: متى سيتعلم أولادكم لغة القرآن، لاسيما وأنكم تحدثونهم باللغة الإنجليزية حتى في البيت؟ ولم يكن يسمع منهم جواباً شافياً.
كبر أولاده وأعادوا سيرة أبيهم فدرسوا البكالوريوس، وتزوج كل واحد منهم قبل أن يعود إلى مسقط رأسه للدراسات العليا. وهناك رزقهم الله بأطفال. ورغم أن قانون الجنسية البريطانية قد تغير، ولم يعد مجرد الميلاد على الأرض البريطانية يمنح الجنسية، لكن الأحفاد الآن بريطانيون بالنسب وليسوا بحاجة إلى القانون القديم.
وبالفعل فإن أولاده كانوا مثل أبيهم حريصين على تعليم أولادهم اللغة العربية، فكان أولادهم يداومون في المدارس النظامية البريطانية أيام الأسبوع، ويتعلمون القرآن واللغة العربية في مدارس نهاية الأسبوع. بل إن أكبر أولاده سعى سعياً حثيثاً لتسجيل أولاده في أكاديمية الملك فهد في لندن ليدرسوا المنهجين الإنجليزي والعربي بآن واحد. وفي البيت كانت اللغة المستخدَمة هي العربية، إلا إذا كان هناك ضرورة لشرح بعض دروس المدرسة.
وما لبث هذا أن شعر بضرورة أن يعمل عمل أبيه، فقد أراد لأولاده أن يتربوا في بلد إسلامي يسمعون فيه الأذان يصدح خمس مرات في اليوم، فانتقل للعمل في هذا البلد المعطاء، ومن أول يوم بحث عن مدارس عربية لأولاده. وهنا كانت مفاجأته! فما هي؟
حدثني قائلاً: إن أصدقاء طفولتي الذين درست معهم اللغة العربية وحفظت معهم القرآن في مدارس عربية، ورغم أنهم يحملون جنسيات عربية وليسوا بريطانيين مثلي، قد سجلوا أولادهم فيما أسموه إنترناشونال سكول، أو المدارس العالمية، التي انتشرت بكثرة في السنوات الأخيرة. وراحوا يثنونني عن عزمي تسجيل أولادي في مدارس عربية. وكلما وجدت مدرسة عربية ذات سمعة طيبة أوجدوا لي فيها عيوباً! فقررت ألا أسمع من أحد منهم، فأنا ما تركت الغرب إلا من أجل اللغة العربية!
تذكرت هذه القصة التي حصلت العام الماضي عندما قرأت مؤخراً خبراً عن ندوة في أبوظبي عنوانها \”المسألة اللغوية في منطقة الخليج العربي\”، والتي طالبت بتقنين استخدام اللغات الأجنبية ووضع التشريعات التي تحدد استخدامها! وكان في الندوة بحث عن \”اللغة الهجين\” التي من شأنها أن تقلل وتكسر من النظام اللغوي للغة العربية، فيما يتعلق خاصة بالإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، بسبب الاعتماد في تربية الأولاد على الخادمات الأجنبيات. فاللغة تسمو بسمو أهلها، وتهبط بهبوطهم، وإن عودة القوة للغة العربية لن يكون بممارسة \”البكاء عليها\” وإنما بإدخالها في مختلف مناحي ومجالات المعرفة والحياة. والمجتمعات الغربية تفرض تعلم لغتها على كل من يريد العيش على أراضيها. فهل يوضع اختبار للغة العربية لمن يريد العمل بالدول العربية، وهل يتم الالتزام بالعربية الفصحى في المدارس والتعليم العالي؟.
كلية الهندسة، جامعة الملك عبد العزيز
[email protected]
التصنيف: