[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]د. محمود الزين[/COLOR][/ALIGN]

هناك فئة من المثقفين العرب في عصرنا هذا تجعل من نفسها وصياً على عقل الأمة وعلى ثقافتها وتريد أن ترسخ في عقول الشباب أن بيدها وحدها ميزان الثقافة فما تعترف به من أبواب الثقافة هو العلم والعقل ، ومالا تعترف به هو تخبط في النظر والتفكير حتى الانتخابات التي ينجح فيها من يخالفهم في الثقافة وفي فهمهم للديمقراطية هي في رأيهم ليست ديمقراطية لأنها لاتقوم على مفهومهم للثقافة والديمقراطية والنظرة إلى شؤون الحياة ، وبناء على هذه النظرة لأنفسهم وللأمة ينظرون إلى فكرها وثقافتها ونظمها السياسية نظرة الاستهانة والاحتقار كأنها مريض يحتاج إلى العلاج ، والعلاج في أيديهم وحدهم ، فهذا يحدثك عن استقالة العقل العربي ، وهذا يحدثك عن تجديد العقل العربي ، وهذا عن نقد العقل العربي .
ولو نظرنا فيما تعلموه وقرؤوه لم نجد فيه الثقافة العربية ونتاج العقل العربي الذي ينتقدونه ، ومن قرأ بعضه منهم فإنما قرأ منه نبذة قراءة لاتقوم على فهم هذا الإنتاج وفهم الأصول التي قام عليها والاصطلاحات المنتشرة بين طيات أبوابه وبحوثه ، وإنما يقرؤه بعين ثقافته التي تلقاها عن خصوم الثقافة العربية ممن عرفوا بكثير من النقد المتحامل بل من النقد الزائف بحجة أن العلوم كلها عرضة للحوار من جذورها إلى آخر فروعها وليس فيها مايجل عن النقد
وهذه الحجة قوية في ظاهرها مهلهلة في بنائها الضمني ، فالعلوم كلها عرضة للحوار إذا كان الحوار يقوم على أصول علمية سليمة قوية تكشف مواطن الخطأ ولا تختلقه وتلصقه بنية النقض المسبقة ، وأقل حق يجب على الناقد هو أن يعرف العلم الذي يريد نقد شيء من كتبه معرفة جذرية متعمقة غير سطحية معرفة تدرك كيف بنيت مسائله على أصوله وكيف تسلسلت هذه الأصول وهذه المسائل
وحسبنا من الشهادة على حال هؤلاء المثقفين ما ذكره واحد من كبار المثقفين وعلمائهم في حديثه عن تجديد العقل العربي حيث صرح بأنه هو وجيله لم يعرفوا غير ثقافة الأعاجم قديمها وحديثها وهم في غيبة تامة عن علوم أمتهم وتاريخها وآدابها حتى إنهم كانوا يحسبون أنفسهم من أمة لاتعرف العلم ….
وأقل مايرد على موقف هؤلاء هو أن يقال لهم : كيف تقدمون على نقد شيء مقدار علمكم فيه هو هذا الذي تقولونه بألسنتكم ، ثم يقال لهم : ماقيمة النقد الذي يقوم على هذا الأساس من المعرفة بما تنتقدونه وترون أنه كان سبب تقهقر الأمة
ومع ذلك إذا نظر ذوو العقول في مذهب المعتزلة – حين نتحدث عن مضمون مذهب المعتزلة – فلن يقولوا إنه (( المذهب العقلي )) إلا إذا كانت النظرة سطحية فهذه التسمية لاتعتمد على دليل صحيح وإنما تعتمد على مايدعيه المعتزلة من أن الدليل العقلي قاطع دائماً وأن الدليل النقلي غير قاطع دائماً ، ومتى تعارضا وجب على المستدل أن يؤول الدليل النقلي ليوافق الدليل العقلي لأن القاطع ينبغي أن يقدم دائماً .
وهذا الادعاء لايقوم على أساس عقلي صحيح إطلاقاً سواء نظرنا إلى قضايا الاعتزال وآراء رجاله أو نظرنا إلى الموازين العلمية للمنطق اليوناني الذي كان أساس ثقافة المعتزلة ، بل لو نظر المرء إلى أصول المعتزلة واصطلاحاتهم في بيان الاستدلال وتصنيف الأدلة ، وهذا وحده كاف في نقض القول بأن مذهب المعتزلة هو المذهب العقلي
فمن حيث النظر إلى قضايا الاعتزال وحوارات رجاله نجدهم يناقضون بعضهم في هذه القضايا مناقضة شديدة إلى درجة أن يكفر بعضهم بعضاً فهل يعقل أن تكون قضايا العقل القاطعة قابلة لهذه المناقضات ؟ وإذن فما معنى أنها قائمة على أدلة قاطعة ؟ وما معنى أن تقدم على نصوص الدين ويترتب عليها تأويل تلك النصوص إن كانت قرآناً وردها إن كانت من الأحاديث المروية ؟ أهذا مايدعو إليه العقل ؟!
إن الموازنة بين العقل والنقل قضيته من أهم القضايا ، أما القول بأن مذهباً ما هو المذهب العقلي لا لأنه كذلك بل ليتخذ ذريعة إلى رفض النقل ونصوص الدين فهذا ليس منهجاً علمياً أصلاً ، إنما هو مسلك من مسالك المغالطة المتحيزة المغرضة.

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *