[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]سعيد الحمد[/COLOR][/ALIGN]

ذاكرة المكان اكثر من سؤال كان يشاغلني وكان يحاورني به الآخرون من الاصدقاء ومن القراء حول كل هذا الهجس في كتاباتي وانشغالاتي بالمكان ومدى ما يمثله المكان في وجداننا وتكويننا وتشكلاتنا.. وهي اسئلة جديرة بأن نفتح اقواسها لقراءات اعرض واوسع مع جميع القراء وجميع المثقفين. في تقديري، ان ذاكرة المكان هي بالاساس او هي اساس ذاكرتنا كأفراد وجماعات تشكلت من خلال المكان او مجموعة الامكنة.. فالمكان في الذاكرة ليس مجرد مكان مادي من حجر او طين او سعف النخيل ولكن المكان هنا وجود حي متحرك وموجود كجزء من حياتنا وربما بلا مكان لن تكون لنا حياة، وبالتالي لن تكون لنا ذاكرة ومخيال يفتح وجدانياً على كل هذه المشاهد المخزونة داخلنا والتي تشكل ذاكرة المكان مفتاحها السري والسحري.. فما ان نعود الى المكان بالذاكرة او بالزيارة او العودة الحقيقية حتى تبدأ الامكنة الصغيرة تتحرك فينا وتدفع بماكينة الذاكرة لتنشط في استعادة مشاهد ربما طواها النسيان. كان أحد البحارة بعد ان اقعدته الكهولة عن ركوب البحر.. كان يومياً وقبل كل غروب نراه ونحن صغار يجلس على بقايا «لنج» او سفينة قديمة على اطراف حالة بوماهر.. وكنا نتعجب حتى الذهول حين نقترب من الرجل الكهل ونسمعه مستغرقاً في حديث مع «اللنج» حسبناه في طفولتنا قد خرّف ولم نفهم سوى الآن ان «اللنج» كان ذاكرة المكان الذي قضى فيه معظم عمره وان «اللنج» ذاكرته الحقيقية. لم نكن معنيين بسماع حديثه وفهم حواره مع «اللنج» لكننا الآن نلاحظ ان البحارة يختارون دائماً الساحل والشاطئ ليستريحوا عنده باعتبار البحر هو الذي يشكل ذاكرة المكان وذاكرتهم. اليوم نعبر جسر الشيخ حمد الذي يربط المحرق بالمنامة.. ونستعيد فوقه باعتباره ذاكرة مكان صورة «حسينو» ذلك الفنان الشاطر في قيادة الدراجة الهوائية «السيكل» وكيف كان يقطع الجسر ممسكاً بمؤخرة الباص الخشبي «الجنكل باص» المسافة بين المدينتين بحركة رياضية رشيقة الى ابعد حدود الرشاقة والشطارة التي تأخذ بألباب اعجابنا نحن الصغار وتنهال فوق الجسر ونحن نعبره الآن كباراً مشاهد وحكايات حركتها ذاكرة الجسر بوصفها ذاكرة مكان هى جزء حميم من ذاكرتنا الاولى، حيث لم يعد الجسر مواد صماء وانما اكتسب هنا الروح ودبت فيه الحياة صوراً هي صورنا وهي ذاكرتنا. ولا اتصور ان واحداً من ابناء المحرق من جيلنا وممن سبق جيلنا يعبر هذا الجسر اليوم ولا تتحرك فيه ذاكرة المكان «ذاكرة الجسر» فيستعيد مشهد ذلك الانسان الطيب «علي الكحلاوي» كما عرفناه اسما ولقبا ليس من القابه لكنه صار يعرف به لانه كان يغني ومغرماً ببعض غناء كان يصدح به في فريجنا الصنقل الى اعماق بوماهر. والسـؤال الذي يطرح نفسه: هل سجلنا ذاكرة المكان في البحرين بوصفه ذاكرتنا جميعاً واضعين بعين الاعتبار ان كل فرد وكل شخص منا له ذاكرة مكانية خاصة؟.. فالمكان الواحد يحوي عدة ذاكرات ومعظمها بحاجة الى تسجيل قبل ان يطويها النسيان ونحن هنا لا نطلب تاريخاً ولكننا ننظر الى ذاكرة المكان بوصفها حكايات من الوجدان تحمل تعبيراتها السوسيولوجية الدالة على بعد اجتماعي ثقافي وسياسي يستعين بها الدارسون والباحثون في الانثروبولوجي الاجتماعي للتكوين البحريني الحديث.
عن صحيفة الأيام البحرينية

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *