لِمَ تقول ما لا يُفهم؟
[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]أ.د. محمود نديم نحاس[/COLOR][/ALIGN]
بعد مقالي السابق عن باراك أوباما جاءتني رسالة إلى بريدي الإلكتروني من صديق يقول فيها: نشكرك على مقالك مع أني تمنيت لو فصَّلت في المقارنة الأخيرة حتى لا يكون هناك لَبس لدى القراء، فأنت تكتب لملايين، كل منهم له أسلوبه الخاص في الفهم. فأجبته بأنني فعلاً عندما قرأت التعليقات على مقالي علمت أن بعض القراء فهموني على غير مرادي، في حين فهم آخرون قصدي، ومنهم سيدة اسمها نورا شرحت عبارتي بأفضل مما كنت سأشرحها فجزاها الله خيراً. فعاد يقرأ التعليقات ثم كتب مرة ثانية يقول: أعجبني تعليقها جداً، لكن ليس كل قرائك نورا، أما أنا فحسبي ولله الحمد أن زوجتي اسمها نورا (نورة على طريقتنا).
أرسلت المقدمة السابقة لصديقي أستأذنه بنشرها، فلعله لا يريد نشر رسالته الخاصة، ثم لعله لا يرغب بنشر اسم زوجته، إذ بعض الناس لم ينتبهوا حتى الآن أننا نعرف أسماء أمهات المؤمنين والصحابيات. وبعدما وافق على المقدمة أكملت مقالي.
المقارنة التي قصدها صديقي وعلق عليها القراء كانت حول عبارتي: هل يتوق أوباما إلى الجنة ويحقق العدل في الأرض وهو على رأس أكبر دولة في العالم اليوم؟ كما حققه عمر بن عبد العزيز في أقل من ثلاثة أعوام من حكمه؟.
ومن يعمل في التدريس، يدرك لماذا غاب معناها عن بعض القراء، فأحدنا يلقي محاضرته الجامعية ظاناً أنه أبدع، ثم يفاجأ بوجود طلاب فهموا عكس المقصود. وما ذاك لعيب فيهم، إنما لكل إنسان أسلوب يفهم به الأمور. فبعض الناس يناسبهم الأسلوب السهل المباشر، وبعضهم يمل من هذا الأسلوب، ويرغبون بالأسلوب المفعم بالبيان والبديع. وأبو تمام، وهو من أهم شعراء العصر العباسي، قد سئل: لِمَ تقول ما لا يُفهم؟، وعندما مدح الخليفة بأنه قد جمع كل الصفات الحميدة لمن سبقوه من العرب:
إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
فوجئ بمن يقول له: \”الأمير فوق ما وصفت\”. فيطرق قليلاً، ثمّ يجيب:
لا تذكروا ضربي له من دونه
مثلاً شَروداً في الندى والباسِ
فالله قد ضرب الأقلَّ لنوره
مثلاً من المشكاة والنبراس
أما المتنبي فينام ملء جفونه في حين يسهر الناس يختصمون وهم يفسرون شعره:
أَنامُ ملءَ جفوني عن شواردها
ويسهرُ الخلقُ جرَّاها ويختصمُ
وهذا ما نراه اليوم في كثير من المنتديات، فما أن يقول أحد قولاً حتى تأتيه الردود من كل حدب وصوب، ثم يبدأ الناس بالرد على بعضهم، والكاتب الأول قد نسي الموضوع. قال لي صديق بأنه كتب في أحد منتديات الإنترنت شيئاً يوحي بأنه منزعج من نوع خاص من البنطلونات لا تخفي العورة يلبسها بعض الشباب. فجاءت الردود لا تدافع عن هذه البنطلونات وإنما تهاجم الثوب!
ولقد حاور الشعراء والكتَّاب نقَّادهم منذ القدم، مدافعين عن فنهم في القول وطريقتهم في التعبير. ونقَّاد مقالاتنا اليوم هم القراء فمن حقهم أن يقولوا ومن حقهم علينا أن نسمع لهم، لكن من حقنا أيضاً أن نكتب ما نراه صحيحاً دون الخروج عن قواعد اللغة. وحيث أن الكاتب يكتب للناس جميعاً فعليه أن يراعي أولئك الذين يستخدمون الجزء الأيسر من الدماغ، وأولئك الذين يستخدمون الجزء الأيمن منه. فالذي يستخدم الجزء الأيسر يمتاز بأنه عقلاني، منطقي، يعمل بتسلسل معين، تحليلي، يرى التفاصيل، يحب صياغة الكلمات واللغات، قليل المغامرة، يفكر في التاريخ، يهتم بالعلوم والرياضيات، لا يتبنى أي فكرة أو معلومة دون التأكد من مصداقيتها. أما الذي يستخدم الجزء الأيمن فيمتاز بالخيال الواسع، والحدس، والطموح، والعشوائية أحياناً، ويحب الصور والرموز، وينبهر بالجمال، ويحب المغامرة، وقد يتبنى فكرة أو معلومة دون تحقيق. وللعلم فإن أكثر الناس هم مزيج من النوعين، في حين هناك أناس من هذا النوع أو ذاك. ومن المعلوم أيضاً أن النساء يكثرن في النوع الذي يستخدم الجانب الأيمن.
فإذا صح ما سبق فإن بعض الناس عندما يقرؤون أو يسمعون يفهمون ما هو مخزون في عقولهم. ومن هنا وجب على المعلم والكاتب أن يبدأ دوماً من معلومة يغلب على ظنه أنها معروفة لمن يكتب لهم أو لمن يدرسهم، ثم ينطلق منها إلى معلومات جديدة، وبالتالي تكون فكرته أسرع قبولاً وأقرب إلى العقل. فهل أستطيع القول أن المقارنة في مقالي السابق أصبحت واضحة؟
[email protected]
التصنيف: