[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]د. سلمان بن فهد العودة[/COLOR][/ALIGN]

تأملت كم من الأسرار العظيمة في سورة الفاتحة ، وخاصة تحت قوله تعالى :\”اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ\” \”الفاتحة:6\” ، دعوة جماعية للهداية تكرّس التفوق على الأنا التي تحاصر الآخرين بالخطأ , وتختص نفسها بالصواب ، فهو هتاف جماعي, ينشد الهداية , ويتضرع إلى الله بتحصيلها.
تأكيد أن الهداية ليست شأناً خاصاً فحسب ، يتعلق بسلوك الفرد الأخلاقي , بل همّ قضية عامة للأفراد والأسر والمجتمعات ، هداية الفرد في عقيدته وعبادته وسلوكه ، وهداية المجتمعات بنشر العدالة ، وحفظ الحقوق الإنسانية ، وإقامة القسط بين الناس ، وتحصيل المعرفة ، وبناء الحضارة.
استفراغ الجهد الذاتي في تحصيل الهداية؛ بالتفكّر والتأمل والبحث والتحري \”فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً\” \”الجـن: من الآية14\” ، \”أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى\” \”الحجرات: من الآية3\” ، يتبعه الدعاء الذي يتمم ما قصّر فيه المرء, أو عجز عنه بطلب المدد والعون من الله .
ترميز لطريق الحق بـ \”الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ\” ، وهو طريق الجنة في الآخرة ، ولكنه في الدنيا يعني الوصول للمقاصد الصحيحة بأسهل وسيلة وأحسن سبيل ، وهذا شامل لآحاد المسائل التي تعرض للبشر .
فكلما تردد المرء في أمر بين طرق شتى, كان منها ما هو مستقيم , ومنها ما هو دون ذلك ، ومنها ما هو معوج.
أمير المؤمنين على صراطٍ إذا اعوج الموارد مستقيم
فإذا تردد في دراسة ، أو صفقة ، أو زواج ، أو سفر ، أو مشروع ، أو قرار؛ فثمت خيارات عدة بعضها أمثل من بعض ، فالدعاء يشملها جميعاً بأن يهتدي المرء إلى أفضل سبلها ، فضلاً عما هو أبعد من ذلك من خيارات الفكر والظن والفهم .
سماه صراطاً ، وهذا يعني الاعتدال ، ثم وصفه بالاستقامة لتأكيد المعنى ، ولذا جاء في الأثر أن الصراط أحَدُّ من السيف ، وأدقُّ من الشعر ، وهذا ليس تعجيزاً حتى يشعر المكلف أو السالك بأنه أمام تحدٍ لا يستطيعه ، كلا ؛ بل هو دعوة دائمة إلى الترقي الأمثل والأفضل ، وأنه كلما وصل إلى نقطة من التوازن والاعتدال؛ وجد فوقها نقطة أخرى تناديه إليها ، فلا يزال في صعدٍ وترق ، يدركه أولاً بفضل الله الذي تضرع إليه وسأله الهداية ، ثم يدركه بالقراءة \”اقرأ وارق\” ومنه قراءة هذه الآية ، وهذه السورة ، وهذا القرآن ، وكل قراءة نافعة, ثم يدركه بالسلوك ولزوم الطريق, ودوام التيقظ, والتطلع للأفضل, والتجرد من التزكية المطلقة للنفس, واعتقاد أنها وصلت إلى التمام والنهاية ، بينما الطريق أمامك يناديك \”وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ\” \”الحجر:99\” .
إن بعض السائرين يصل إلى درجة ثم يتوقف عندها, ويعتقد أنها هي المقصود بالهداية ؛ فيحاكم الناس إليها؛ غافلاً عما فوقها وما وراءها مما لم يصل إليه بعد .
والمرء يدرك بالتجربة أن مقاربة الالتزام الشرعي الدقيق لا تحقق بآلية فورية ، ولا بدعوى عريضة, ولا حتى بحرص شديد حتى يتم للسالك تكرار المحاولة والإلحاح ، والتطلع نحو الأفضل .
وليس الأمر أن ينتقل من خطأ إلى صواب ، بل من نقطة توازن إلى أخرى هي أدق منها؛ يدركها بالفقه الخاص المتحصل بدوام المراقبة ، وكثرة الاستعانة ، وكم في آحاد سلوكنا من المعاني الفاضلة التي نستند فيها إلى حجة شرعية ، ولو زيد لنا في العلم والفضيلة؛ لوجدنا أمثل منها وأحسن وأقرب زلفى.

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *