صحوة المثقف العربي

admin

ما الذي آل إليه حال المثقف العربي اليوم؟
أين هو مما يحدث حوله سياسيا وثقافيا واجتماعيا؟
كيف تنازل هكذا ببساطة عن السعي وراء حلمه النبيل؟
دعونا نواجه أنفسنا مواجهة صريحة ونزيهة‏..‏ فنعترف بأن المثقف العربي قد عزل نفسه بإرادته داخل ذاته‏..‏ ونزع يده من أياد أخرى كثيرة كانت تتشابك معه‏..‏ ويعمل معها من أجل مستقبل هذه الأمة‏.‏
أما لماذا انعزل المثقف‏..‏ فهو يزعم أن حلمه انكسر منذ‏1967‏ ولم يعد للعروبة وجه ولا عينان‏..‏ ولا لسان‏..‏ ولا وجدان‏..‏ ومن ثم اختار أن ينكفىء على ذاته تاركا الساحة لغيره يركض فيها كيفما يشاء‏..‏
وحينما نسأل المثقف‏:‏ ألم تحاول أن تستعيد حلمك‏..‏ أو تصنع لنفسك حلما جديدا؟‏..‏ نجده يدخلنا في حالة من الجدل الذي ينتهي إلى اليأس والإحباط والشعور باستحالة الخلاص‏..‏
فهو يري أن كل قيم المجتمع قد انهارت‏..‏ وحل محلها رذائل أخري‏..‏ وتكالبت علينا القوى العالمية‏..‏ وانفرط عقد العروبة‏..‏ وتسابق الاعلام في إلهاء الناس عن التفكير في مشاكلهم‏..‏ وكأن كل شيء قد استعصي على الحل‏..‏
ومن ثم فقد آثر المثقف أن يعزل نفسه عن الواقع المريض‏..‏ واكتفي بالانشغال بالقضايا الفكرية الخلافية‏..‏ والتأويلات‏..‏ والمصطلحات وصراع الحضارات‏..‏ والحداثة‏..‏ وغيرها من قضايا تغييب العقل‏.‏
وتحضرني هنا حكاية رمزية قديمة تقول‏:‏ إن جميع أعضاء الجسد رفضت ذات يوم أن تعمل عملها‏..‏ فالذراعان لا ترفعان اليدين‏..‏ والقدمان ترفضان المشي‏..‏ قالت القدمان‏:‏ لماذا نركض هكذا طوال النهار نبحث عن غذاء لهذه المعدة التي لا تكتفي ولا تشبع أبدا‏.‏
وقالت الذراعان‏:‏ نعم‏..‏ ولماذا يجب أن نعمل ساعة بعد أخرى في حفر التربة‏..‏ وبذر البذور‏..‏ وجني الثمار‏..‏ وطبخ الطعام واعداده لهذه الجعبة الشرهة الكسول‏.‏
وأضافت عظام الفم والأسنان‏:‏ ولماذا يجب أن نواصل مضغ الطعام وطحنه كلما طالبت المعدة بطعامها‏..‏ وهي لا تكف عن هذه المطالبة أبدا‏..‏ فلتقم المعدة بعملها وحدها‏.‏
عندئذ أجابت المعدة‏:‏ صحيح إن لدي رغبة عظيمة للاشتهاء تجعلني مدينة لكم بإطعامي‏..‏ ولكنكم نسيتم انني أرسل عصارة هذا الغذاء إليكم جميعا‏.‏ فإذا لم أتناول طعامي وأشبع‏..‏ لا يمكن لأي منكم أن يؤدي عمله‏..‏ وسوف لا ينمو عضو منكم نموا طبيعيا‏..‏
إن مغزى هذه الحكاية الرمزية واضح جدا‏..‏ فالوطن هو الجسد الذي يحتاج إلى معاونة الأعضاء جميعا لكي ينمو ويتمتع بالصحة والعافية‏..‏ ويستمر في الحياة‏..‏ فإن تخلي عضو منه عن وظيفته أصاب الجسد خلل ما‏..‏
وأحسب أن المثقفين يمثلون أقوى وأفضل أعضاء الجسد‏..‏ فهم العقل المفكر الذي يمكنه أن يطلق الرؤي‏..‏ ويقترح الحلول‏..‏ ويرسم حلم المستقبل‏..‏ ثم يرسل ذلك كله في صورة رسائل سمعية وبصرية وحسية إلى كل أعضاء الجسد‏..‏ فيعمل الجميع في منظومة واحدة‏.‏
نحن لا نطالب المثقفين بأن يكونوا من رجال السياسة‏..‏ وإنما نطالبهم بما نحسب أنه دورهم المتفرد ‏ فلماذا أفلت الزمام ـ اليوم ـ من أيدي المثقفين‏..‏ وكيف سمحوا لأنفسهم بهذه الحالة من الاحباط والانعزال‏.‏
إن تاريخ المثقفين يدل على أن العقول سرعان ما تلتف حول القضية إذا كانت تلك القضية تمس كرامة البشر وكرامة الوطن‏..‏ ذلك ما تؤكده صفحات الماضي البعيد والقريب‏.‏
واليوم‏..‏ ألا تستحق أي قضية مطروحة ـ سواء علي الساحة العربية أو الساحة المصرية ـ موقفا موحدا من المثقفين‏..‏ أم انها صارت ـ في ظنهم ـ قضايا هزيلة مكررة لا تستحق الاهتمام‏.‏
هل قضايا الانقسام العربي‏..‏ والفساد‏..‏ والبطالة‏..‏ والأمية‏..‏ والفقر‏..‏ والعشوائيات‏..‏ والتعليم‏..‏ والاعلام‏..‏ والعنف والجريمة‏..‏ لم تعد تستحق وقفة جادة ـ بعيدا عن الاحتجاجات والاضرابات ـ ولدينا من الخبراء والعلماء وأصحاب الرأي ما إن اجتمعوا وتواصلوا وأخلصوا لوضعوا رؤى وحلولا لهذه المشاكل المزمنة؟
وقد يحتج البعض بأن البيروقراطية السائدة تحول دون تحقيق ما يحلم به المثقف‏..‏ وأن هناك من يستعذب تعويق القوي الفاعلة المخلصة ومحاربة كل مجتهد‏..‏ ومقاومة كل ما هو صالح‏..‏
وقد يكون لدى المثقف الحق في هذا التصور‏..‏ لكن هذا الأمر لا يجوز أن يصل إلى المدى الذي يجعلنا نفقد حماسنا وانتماءنا لهذا الوطن‏.‏
وأزعم أن دور المثقف قد يتقدم بمراحل دور السياسي‏..‏ وحسبنا أن نتذكر مواقف تاريخنا المعاصر التي قادها اعلام التنوير مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ولطفي السيد والعقاد وطه حسين وشوقي وحافظ وغيرهم‏..‏ حتي نصل إلي موقف المثقف الكريم في عبور‏1973.‏
ألا يستحق التشرذم العربي موقفا أشد قوة وإخلاصا من المثقف العربي؟‏!‏
ألا يستحق ما يحدث في فلسطين بين الاخوة الأعداء‏..‏ وبينهم وبين العدو الصهيوني موقفا جادا؟
أليس الموقف في السودان يستحق من المثقف العربي وقفة جادة‏.‏؟
الساحة إذن تدعو إلى صحوة لا يقوم بها سوي المثقفين‏..‏ وأزعم أن السياسة قد بلغت منتهاها عند أصحابها‏..‏ وبقي على المثقف أن يدلي برأيه‏..‏ وأن يكون فاعلا بعيدا عن الجدال والزعيق‏..‏
فهل يفيق المثقف العربي على دوره الغائب الذي يضخ في مخ الأمة وجسدها دما جديدا؟
ورحم الله شاعرنا المتنبي حين قال‏:‏
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام الكرائم
الأهرام المصرية

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *