[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]محمد صادق دياب[/COLOR][/ALIGN]

اعتاد فقراء الحجاج اليمنيون أن يقضوا شهورا طويلة في الطريق إلى مكة المكرمة، فحينما تنفد النقود من جيوبهم يضطرون إلى العمل في القرى والمدن التي تصادفهم ريثما يوفرون نفقة السفر إلى المدينة التالية، وقبل نحو ستين عاما تطلبت رحلة صاحبي، ورفيق عمري حسن زين مدة تزيد على العام، فالجمل الوحيد الذي كان يقل جدّه وجدّته تعثر في الطريق، وكسرت ساقه، فاضطرت الأسرة أن تكمل المشوار مشيا على الأقدام، تنتقل من قرية لأخرى، تعمل في واحدة، وتستريح في أخرى.. في الطريق مات جده، ولم تمض سوى أيام حتى لحقت به جدته، وعلى مشارف مدينة جازان انطفأت شمعة الحياة في دواخل أمه، وتبعتها بعد ذلك شقيقته، حتى ان الركب حينما وصل إلى جدة لم يتبق من الأسرة التي انطلقت من إحدى قرى زبيد سوى نصف عددها المتمثل في الأب، وابنته، وولدين صغيرين، أكبرهما في السادسة، أما الأصغر ففي الثالثة من العمر، وهو صديقي الذي أروي لكم اليوم أطرافا من حكايته.
في مدينة جدة استوطنت الأسرة حينا الشعبي العتيق \”الهنداوية\”، وفي الحارة اكتسب الطفل حسن لقب \”زنقر\”، إذ كان يسير في الدروب طفلا يردد عبارات غريبة مثل: \”زنقر بنقر\” ليوهم سامعيه بأنه يتكلم الإنجليزية، وفي مدرسة الحي \”المنصورية\” وجد نفسه مع غيره من أطفال الحي ينخرطون في ركب التعلم، يطفون على سطح الأعوام من فصل لآخر.. والده مؤذن أحد المساجد في أطراف الهنداوية، ويقتات رزق أسرته بالكاد.
لحي الهنداوية سيكلوجيته الخاصة، ففيه تتعانق بيوت الصفيح مع البيوت الأسمنتية، ويتجاور الفقير مع الغني، ويرتبط الغريب بالمواطن في تكافل نادر وعجيب، وفي هذا الحي الذي أنتج كتابا، وإعلاميين، وفنانين، ورياضيين عاش حسن أو \”الزنقر\” كما نطلق عليه طفولته، وصباه، وشبابه، وكهولته.. في صباه كان يخرج من المدرسة ليلتقط إبريقا كبيرا مملوءا بعصير الليمون يطوف به مدينة الحجاج وصالات الميناء البحري، وهو ينادي على بضاعته بمختلف اللغات كالجاوية والأوردية والتركية، وحينما يغادر الحجاج إلى بلادهم يستأجر بيتا من بيوت الصفيح يدرس عمال الحي الأميين على ضوء مصباح يعمل بالكيروسين مبادئ القراءة والكتابة، ويجد وقتا رغم كل ذلك لممارسة الكرة، والمزمار، وشقاوات الصبيان.. تخرّج في المدرسة التجارية بعد رحلة كفاح طويلة، فعمل في بعض مكاتب المحاسبة، والبيوتات التجارية قبل أن يستقر في إحداها منذ سنوات.
عاش حياته الطويلة لم يعرف من الدنيا مدينة سوى جدة، وليس له صحب سوى أهلها، حتى أنه حينما زار بلاده اليمن لاول مرة بعد غربة عقود انخرط في عفوية في طابور الأجانب، ولم يتنبه إلى وقوفه في الطابور الخطأ إلا حينما نبهه موظف الجوازات إلى ذلك.
كتب عنه صديقنا المبدع على خالد الغامدي قبل أسبوعين في رحلة الأيام، مستعيدا ذلك الزمن الجميل الذي كان فيه \”الزنقر\” يطلق على الريال اسم المليون، ويتناقش مع علي خالد أمام الناس عن عدد الملايين التي يمتلكانها قبل أن يقدما على طلب براد من الشاي وزجاجة ماء \”غير صحية\”.
حينما تلتقي به اليوم في دروب جدة يحمل على كتفيه سنوات أعوامه الستين، وقد طرز الشيب لحيته الكثة بالبياض، وازدانت جبهته بأثر السجود، تشعر أن هذه المدينة قد وشمت نقشها على ملامحه، وروحه، ووجدانه، فهو يدين لهذا الوطن بتعليمه، وبهجة أيامه، وأسباب رزقه..
أيها الصديق حسن زين \”زنقر\”: في رحلة الأيام وجوه كثيرة تمر بنا، ونمر بها، ويبقى وجهك ضمن كوكبة الوجوه التي يشد القلب إليها رحاله.
[email protected]
www.jeddahsociety.com

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *