بعض النصائح مضللة
في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي قام أحد الفتية المنتسبين للكلية الملكية البريطانية باستغلال اجازته السنوية بعمل بعض التجارب الكيميائية على قطران الفحم في مرآب منزله ، في إحدى تجاربه ترسبت مادة سوداء في قعر الدورق ، أراد أن يغسلها مستخدماً مادة كحولية وإذ بها تتحول إلي صبغة أرجوانية ، انبهر بها ؛
فصبغ بها خرقة كانت بالقرب منه ؛ فأثبتت فعاليتها رغم غسله لها مرات عديدة ، أرسل عينة إلي إحدى أشهر المصابغ في بريطانيا وطلب منهم تجربتها على الأقمشة ، فأتاه الرد أن صبغته مذهلة وأنهم على استعداد لشراء كل ما لديه منها ،
عندها أيقن أنه أمام منعطف جديد في عالم صناعة النسيج سيغير خطط الإنتاج إلي الأبد ، لكنه بحاجة الآن لبراءة اختراع تحفظ له حقوقه الفكرية والعلمية ، فحفظ هذه المادة في برطمان صغير وقرر إن يستشير أستاذه في الكلية الملكية آنذاك وهو عالم الكيمياء (أيه في هوفمان) ، لكن الأخير فاجأه بالنهر وعدم التشجيع ، وقال له كما يقول بعض المعلمين اليوم لطلابهم الذين يتمتعون بمواهب وأفكار ليست في صلب المنهج أو الدرس ”
ركز في دروسك واترك عنك هذا العبث ” ، أُسقط في يده ، ومكث منكفئاً على نفسه الليالي الطوال يفكر في نصائح أستاذه التي خيبت أمله ، وكاد أن يصرف النظر كلياً عن الفكرة لولا والده الذي سأله ذات ليلة عن سبب وجومه وسرحانه ، وما أن أخبره بالقصة حتى قام من مكانه وعانقه ؛ وشد على كتفه مشجعاً له في ملاحقة فكرته وأحلامه ، فساعده على تسجيل براءة اختراع لصبغته تلك ، ثم بنى له مصنعاً للإنتاج باسمه ، ولم يمض أكثر من ست سنوات على بداية الانتاج إلا وقد أصبح هذا الشاب من أغنى أغنياء أوروبا ، ليس هذا وحسب ؛ بل حصد العديد من الجوائز والتكريمات ؛ منها عضوية الجمعية الملكية وميدالية لافوازييه وغيرها ، حتى ميدالية أستاذه السير (أيه في هوفمان ) الذي كاد أن يحرمه هذه اللذة حصل عليها أيضاً ، هذا الشاب اسمه ويليام بيركن .. أول من صنع الصبغات الكيميائية في العالم بعد أن كانت تستخلص فقط من مصادر نباتية وحيوانية ، فالأصباغ قبل بيركن كانت رديئة إذ سرعان ما كانت تبهت مع الغسل فضلاً عن تكلفتها العالية ، ما جعلها منحصرة في ملابس الأثرياء والعوائل الملكية فقط ، لكن بيركن قلب ظهر المجن ونقل صناعة النسيج والملبوسات إلي مرحلة مختلفة أصبحت فيها الملبوسات الملونة متاحة للجميع.
خلاصة القصة .. ليست كل النصائح في محلها ، وليس كل من نستشيرهم يستطيعون تلمس أفكارنا بذات الوضوح في مخيلاتنا ، فحينما تؤمن بفكرة ما ؛ أو خطوة ما ، أو موهبة ما ، فثق تماماً أن هذا الإيمان لا يشعر به أحد سواك ،
أنت الوحيد من يترنح تحت وطأة إلحاحها ، وأنت الوحيد من يرى وهجها ويشعر بدفئها وقربها ، ومهما بلغ من تستعين به من العلم والحكمة في تقدير فكرتك أو خطوتك أو موهبتك فلن يكون أبداً أقرب منك أنت إليها ، ذات مرة دخل شاب مبتدئ في إحدى الفنون على عبقري في هذا الفن ليستشيره في أول أعماله ، فقال له العبقري
عملك رديء وسيئ ، فحزن الشاب ، وقبل أن يهم بالخروج عاد وسأل العبقري مرة أخرى وقال : كيف وصلت لكل هذه العبقرية ؟ فرد عليه العبقري : لم استشر أحداً في أعمالي كما تفعل الآن.
@ad_alshihri
[email protected]
التصنيف: