الناتو: من الشراكة الجديدة إلى التدخل في الأزمات
[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]د. أشرف محمد كشك[/COLOR][/ALIGN]
بعد انتهاء الحرب الباردة، شهدت استراتيجية حلف الناتو تطورا ملحوظا، حيث امتد نشاطه، خلال التسعينيات من القرن الماضي، إلى منطقة حلف وارسو السابق، وسعى لضم العديد من دولة إلى عضويته. وقد تطورت عقيدة الحلف، خلال الفترة ما بين عامي 1991 حتى 2001، من \”الردع\” إلى \”الدفاع عن المصالح الجماعية\” لأعضائه خارج أراضيه. كما أصبحت تشكيلات تأخذ شكلا يناسب التدخل السريع، حال اندلاع أزمة من شأنها تهديد مصالح أعضاء الحلف، خاصة في منطقة حوض البحر المتوسط..
أطلق الحلف حوارا عام 1994 مع سبع دول متوسطية، هي: المغرب، وتونس، وموريتانيا، ومصر، وإسرائيل، والأردن، والجزائر، وذلك للتعاون في محاربة تهديدات محتملة لأعضاء الحلف، مثل الهجرة غير الشرعية، وتهديد المخدرات، والأنشطة الإرهابية. بعد اعتداءات سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة، شهدت استراتيجية الحلف تطورا جديدا، حيث تم الاتفاق في قمة براج نوفمبر 2002 على خطة عمل مشتركة ضد الإرهاب، وإنشاء قوة رد سريع متطورة عام 2006.
اهتم الحلف في هذه الفترة أيضا بتطوير التعاون الأمني الثنائي بين دول الحلف وبلدان الشرق الأوسط الموسع. وتم طرح مبادرة اسطنبول للتعاون الاستراتيجي في يونيو 2004، لتكون بداية لهذا التعاون. انضمت لهذه المبادرة أربع دول خليجية هي الكويت، والإمارات، وقطر، والبحرين.
تضم هذه المبادرة قائمة يمكن للدول الاختيار فيما بينها في ستة مجالات، هي: الإصلاح الدفاعي والتعاون العسكري، ومكافحة الإرهاب، والتصدي لانتشار أسلحة الدمار الشامل، وأمن الحدود، والإرهاب، والتخطيط لحالات الطوارئ المدنية وإدارة الأزمات.
وفي ظل الانتقادات الموجهة للسياسة الأمريكية، عقب ما سمته \”الحرب على الإرهاب\”، والتي خاضت بموجبها حروبا في أفغانستان والعراق، سادت لدي الحلف رغبة في أن يتمايز -ولو نظريا- عن تلك السياسة. أطلق الحلف في هذا الإطار مبادرات للشراكة تتضمن \”الأمن الناعم\”، متمثلا في التدريب والاستشارات، وإدارة الأزمات، على نحو مغاير \”للأمن الصلب\” الذي ظل نهجا للإدارات الأمريكية على اختلاف توجهاتها. وفي هذا الإطار، فقد أنشأ الحلف قسم الدبلوماسية العامة ضمن الجهاز المؤسسي للحلف ببروكسل، ضمن جهوده لتغيير صورته السلبية، خاصة في المنطقة العربية.
ونظرا لسيادة هذه النظرة السلبية عن الأحلاف في المنطقة العربية، لم يكن هناك تدخل أطلسي مباشر في الأزمات العربية ما قبل الثورات التي تشهدها المنطقة في الوقت الراهن، وإنما شارك أعضاء الحلف الرئيسيون خلال أزمتين. كانت الأزمة الأولى هي حرب الخليج الثانية عام 1991، التي شاركت بها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا. أما الأزمة الثانية، فكانت خلال الحرب العراقية – الإيرانية، حيث شارك بعض أعضاء الحلف في عملية عسكرية استهدفت تأمين إمدادات النفط من خلال حماية عبور ناقلات النفط عبر الخليج. وتمكنت الدول الحليفة من أسر بعض السفن الإيرانية التي كانت تقوم بزرع ألغام مضادة في الخليج، واشتبكت في إطلاق نيران مع القوات الإيرانية التي استغلت منصات النفط لمهاجمة السفن. ومع أن تلك العملية لم يضطلع بها الحلف كمؤسسة، فإنها تمثل نموذجا على تعاون \”ائتلاف من الدول الراغبة\” لتأمين منطقة استراتيجية.
أما بالنسبة للتدخل في الصراع العربي – الإسرائيلي، الذي من شأنه نزع فتيل صراعات وأزمات عديدة في المنطقة العربية، فإن الأمين العام السابق للحلف أكد أن التدخل في هذا الصراع سيظل محكوما بضوابط ثلاثة: أن يكون ذلك وفق قرار من مجلس الأمن، مشاركة الأطراف المعنية بالشرق الأوسط في ذلك الأمر، أن يكون دور الحلف ضمن المراحل النهائية لهذا الصراع والتي تتضمن تأسيس دولة فلسطينية قابلة للحياة. بيد أن ذلك لا يعني أن الحلف ظل بعيدا عن هذا الصراع، حيث إن الاتفاق الأمني الذي تم توقيعه بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في 16 يناير 2009، بشأن منع تهريب السلاح إلى قطاع غزة، قد أشار إلى دور الناتو في ذلك الاتفاق بالقول \”تعمل الولايات المتحدة مع شركائها الإقليميين وحلف الناتو لمواجهة مشكلة تهريب الأسلحة ونقلها إلى حركة حماس ..\”.
وفي هذا الإطار، فقد أثار تدخل الناتو في الأزمة الليبية تساؤلا مؤداه: لماذا تدخل الناتو في ليبيا؟ وما هي أسس هذا التدخل وأسبابه؟، بل والأهم من ذلك ما هو تأثير ذلك في الأمن القومي المصري والعربي؟
أولا – \”التدخل\” في استراتيجيات الناتو :
منذ نشأة حلف الناتو وحتى الحرب الباردة، ظل مفهوم التدخل الأطلسي في الأزمات محددا بما نصت عليه المادة الخامسة من ميثاق الحلف، والتي تنص على أن أي هجوم مسلح ضد أي من أعضاء الحلف يعد هجوما على دول الحلف كافة بما يتيح لها حق الدفاع عن النفس. ويعني ذلك أمرين، الأول: إن التدخل ما قبل انتهاء الحرب الباردة ظل محددا بمنطقة جغرافية معينة هي أراضي الدول الأعضاء، والثاني: هو ارتباط ذلك بوقوع عدوان من عدمه على أحد أعضاء الحلف.
إلا أن التحولات العالمية في مطلع عقد التسعينيات وما رتبته من تهديدات، مثل الحرب في يوغسلافيا وكوسوفو، مثلت تحديا لحلف الناتو، ومن ثم كان قرار الحلف بالتدخل في تلك الأزمات بدلا من الاكتفاء بمراقبتها. من ناحية أخرى، فقد سعى حلف الناتو لانتهاج استراتيجية جديدة ما بعد انتهاء الحرب الباردة تستجيب ومعطيات البيئة الأمنية العالمية المتغيرة، ومنها منطقة جنوب المتوسط والشرق الأوسط . إذ شهدت قمة الحلف في روما، عقب انتهاء هذه الحرب، التوصية بصياغة استراتيجية جديدة للحلف، مفادها أنه يتعين على الحلف إيلاء السياسة الأمنية للدول المتوسطية غير الأوروبية أهمية خاصة، انطلاقا من أن تحقيق الاستقرار والأمن على الحدود الجنوبية للدول الأوروبية يعد أمرا مهما لأمن الناتو. ومن ثم، فقد تمثلت معضلة الحلف في تحقيق الاتساق بين ميثاقه الذي لا يتيح التدخل خارج أراضيه ومواجهة التهديدات الأمنية التي تهدد مصالح أعضائه، مما حدا بالحلف لإصدار مفهومين استراتيجيين، الأول عام 1999، والثاني عام 2010.
المفهوم الاستراتيجي الأول (1999) :
حدد ذلك المفهوم وبوضوح مهمة جديدة لحلف الناتو، هي\”إدارة الأزمات\” دون تحديدها بمنطقة جغرافية معينة. وجاء في ذلك المفهوم \”ضرورة أن يبقي الحلف على أهبة الاستعداد للإسهام في كل حالة على حدة وبصورة جماعية في الوقاية بفاعلية من النزاعات، والمشاركة بنشاط في إدارة الأزمات بما يتضمنه ذلك من عمليات للرد على الأزمات، وذلك وفق القرارات الأممية\”. كما جاء في المفهوم \”يجب على الحلف أن يضع في اعتباره الإطار الكوني، إذ يمكن أن تتأثر المصالح الأمنية للحلف ودوله بسبب مخاطر تتجاوز مجرد العدوان على أراضي أحد أعضائه، بما فيها الأعمال الإرهابية، والجريمة المنظمة، وإعاقة تدفق الموارد الحيوية إلى الدول الأعضاء\”. ووفقا لهذا المفهوم، فقد اتسعت مجالات التدخل العسكري للحلف لتشمل الأسباب الإنسانية، وعمليات حفظ السلام، ومنع الانتشار النووي، سواء داخل أوروبا أو خارجها، وهو ما يعني تعديل المادة الخامسة التي لم تكن تتيح ذلك التدخل من قبل.
المفهوم الاستراتيجي الثاني (2010)
انطلاقا من إدراك أعضاء حلف الناتو لاستمرار التهديدات التي تواجه مصالح أعضائه خارج أراضيه، فقد جاء إصدار ذلك المفهوم أكثر وضوحا وتحديدا عن سابقه بشأن التدخل الأطلسي في الأزمات، حيث تضمن ما يلي:
– يمتلك الحلف مقدرات سياسية وعسكرية نادرة يمكنها التعامل مع الأزمات، سواء قبل أو أثناء أو بعد نشوئها.
– البيئة الأمنية لم تعد أراضي الناتو، إذ إن الصراعات والاضطرابات التي تشهدها الدول الواقعة خارج حدود الناتو قد تلقى بظلالها على أمن دول الناتو ذاتها، يقع ضمن هذا الإطار قضية أمن الطاقة، حيث إن الجزء الأكبر من الاستهلاك العالمي من إمدادات الطاقة يمر عبر أراضي مختلف بلدان العالم، وبالتالي فإن تلك الإمدادات قد تكون عرضة للمخاطر والهجمات والانقطاع.
– إن الأزمات والصراعات التي تدور خارج أراضي الناتو قد تهدد مصالحه بشكل مباشر، وبالتالي يتعين على الناتو التدخل حيثما أمكنه وحينما اقتضت الحاجة ذلك للحيلولة دون اندلاع الأزمات أو إدارتها، حال وقوعها، ثم إعادة الاستقرار إلى المنطقة بعد انتهائها، والمساعدة في إعادة إعمار المنطقة.
وانطلاقا من هذين المفهومين، فقد جاء تدخل الحلف انطلاقا من الاعتبارات الإنسانية في كل من كوسوفا 1999 وأفغانستان في عام 2003، حيث كانت أفغانستان أول عملية عسكرية للحلف خارج منطقة عمله التقليدية في أوروبا.
التصنيف: