التصورات المسبقة للآخر
[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]د. موزة المالكي [/COLOR][/ALIGN]
تكون لدى البعض منا أفكار مسبقة عن الكثير من الأمور، وأحياناً عن الناس. مثلاً أنا شخصياً كانت لدي أفكار مسبقة كثيرة عن الحياة في الغرب؛ خاصةً في أوروبا؛ ربما لم تأت من السمع فقط، بل من بعض زيارات قصيرة لم أختلط بالناس الحقيقيين في تلك الدولة، وقد كانت أغلب تلك الأفكار مغلوطة وكان أهمها أن الحضارة الغربية أجبرت الفرد على أن يعيش لذاته، كما جعلت الأنانية المفرطة والمصالح الخاصة أساساً للعلاقات. وعندما سافرت إلى أسكتلندا في بعثة للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة \”أبرتي داندي\” وطنت نفسي على حياة لها خصوصيتها، إلا أنني اكتشفت أن هذه التصورات المسبقة ليس لها أي أساس من الصحة، وأنها لا تعدو أن تكون صوراً مزيفة عن واقع الإنسان هناك، الواقع الذي اكتشفته بنفسي من خلال معايشة الإنسان الأسكتلندي اليومية.
ربما تصلح هذه التصورات في المدن الكبيرة مثل لندن، والتي تكررت زياراتي لها للعلاج، فالبقاء في لندن لم يساعدني على تجاوز تلك العنصرية، بل زادت رسوخاً خاصةً مع ارتباط هذه المدينة بالألم والبقاء في المستشفى لشهور طويلة والعمليات الجراحية المتكررة من عملية القلب المفتوح إلى الولادات القيصرية. هذه التجارب العلاجية المؤلمة حرمتني من الالتفات إلى ما تتمتع به بريطانيا من جمال.
ضحكت من انطباعاتي السابقة عندما تذكرت لندن وأنا أحزم حقائبي لأواصل دراستي في بريطانيا، ولعل مرحلة النضج تمنحك مساحة أكبر للتأمل، أو ربما ما لمسته في مدينة داندي في أسكتلندا من ترحاب ومودة ودفء من الجميع؛ ساهم في تغيير نظرتي إلى الإنجليز أو بالأحرى الأسكتلنديين بالتحديد، وإلى بريطانيا، فوجدت الدافع لاستكشاف جمال الطبيعة هناك. ساعد على ذلك أنني بدأت الدراسة مع بداية فصل الصيف؛ أجمل فصول السنة هناك؛ فتوطدت صلات الألفة بيني وبين المكان والأشجار والعديد من أنواع الطيور التي لا تفارق شرفة شقتي التي كنت أجدها صغيرة مقارنة ببيتي هنا، بينما يراها الجميع كبيرة هناك، والتي تقع في الطابق الرابع والأخير من البناية، وتلك الجبال الخضراء التي أنام على سحر منظرها وهي تطل من شرفات غرفة نومي الانسيابية، بينما أصحو على صوت تغريد الطيور؛ وفي أغلب الأحيان على صوت المطر-كما علق أحدهم ذات يوم بأن السماء تمطر مرتان في داندي فقط وكل مرة يستمر المطر ستة أشهر- وكم كنت أحب صوت المطر؛ الذي بقدر ما أفرح لهطوله؛ بقدر ما يستاء الناس هناك منه ويضجرون، وكم كنا نستبشر بالثلوج ونبتهج، بينما هم يكتئبون ويبقون في البيوت.\”داندي\” المدينة الصغيرة التي يقول أهلها الطيبون إنها أجمل مدن أسكتلندا؛ استطاعت وأهلها أن يغيروا فكرتي المسبقة عن بريطانيا وبرودة ناسها التي تفوق برودة طقسها. كما حاولوا إقناعي ولم يفلحوا، فأهل هذه المدينة الصغيرة التي تنتمي إلى المناطق الريفية؛ بلغوا درجة عالية من التعاون والتفهم والتحضر.
طلبت من إحدى السيدات التي التقيتها في نادي نسائي للياقة البدنية أن ترشح لي مدرسة لألحق صغيرتي بها، فلم تكتف بمجرد ذكر المدارس القريبة، بل تطوعت بكل مودة في شرح ميزات وعيوب كل مدرسة والفروق بينها. ومع أنها تقوم بالتدريس في مدرسة خاصة باهظة التكاليف؛ وهي المدرسة التي كنت أنوي إلحاق ابنتي بها لمجرد انبهاري بالمبنى الضخم والاسم الرنان لها؛ إلا أنها قدمت لي نصيحة صادقة وبتجرد شديد عن وجود مدارس أخرى أقل تكلفة ومتميزة في خدماتها التعليمية..وكم كانت رائعة وهي تقدم النصيحة؛ بعيداً عن معايير المصالح، أو حجب الحقيقة لتعزيز مصالحها في ترشيح المدرسة التي تدرس بها.
وليست هذه حالة فردية استثنائية، فما إن تسأل عن مكان ما، إلا وتجد من يدلك فوراً، ويصف لك الطريق بدقة واهتمام، حتى أن البعض قد يتطوع بمرافقتك حتى يدلك على المكان من أقرب موقع له.وهذا السلوك المتحضر ليس موجهاً فقط للآخر، ولكن أيضاً للمكان والأشياء والبيئة والنظافة والأمانة… إلخ.
فعلى سبيل المثال، طريقة بيع الصحف في الغرب، تنم عن ثقة كبير بالفرد وأمانته، فالصحف توضع في أماكن خاصة في الشارع العام، وما على القارئ إلا أن يسحب نسخته ويضع ثمنها في مكان مخصص. وبوسعه أن يسحب أكثر من نسخة، أو حتى أن يأخذها دون أن يدفع ثمنها، ولكن سواء في بريطانيا أو أمريكا لم أشاهد إلا سلوكاً متحضراً راقياً.وهناك العديد من الصور الأخرى؛ ربما لم تتح لي الفرصة لأتبينها الكثير منها. فالحياة هناك لها إيقاعها المختلف، ولها شكلها الجديد الذي يحتاج إلى أيام وشهور لاكتشاف وتجريد العوامل التي ساهمت في تشكيل السلوك الأوروبي المتحضر والإنساني. وكذلك اكتشاف الأسباب التي أدت إلى تكوين صور مسبقة مغلوطة ينفيها الواقع والمعايشة.
التصنيف: