رؤية : سعود الصاعدي
لدى الشاعر العامي سعد بن جدلان حساسية عالية في التقاط الشبه، وهو في نظري يضارع في الفصحى قدرة ذي الرمة على التشبيه الدقيق ومعه ابن المعتز ، فقد امتاز ذو الرمة بالمقاربة بين الأصوات المتشابهة بما يدلّ على حساسيته السمعية في الالتقاط ، في حين امتاز ابن المعتز بالصورة الحركية ، و له تشبيهات من هذا النوع تدل على قدرته في الربط بين المتباعدات ، ويأتي ابن جدلان امتدادا لهما في هذا الحسّ الشعري الدقيق الذي يرصد الخيوط الخفية بين الأشياء بنباهة و تفوّق ، يقول في وصف البرق :
وبرقه على كبد السما لا فلجها –
طلسم حكيمٍ كاتبٍ ذروة علاج !
أحسب هذه الصورة التي تقرن حركة البرق السريعة وصورته المتعرّجة في السماء بتوقيع الطبيب في وصفة العلاج من أطرف التشبيهات وأندرها وأقدرها على الربط بين المتباعدات، هذا غير ما يكشفه المعجم الذي يسجّل موقف الشاعر بدقة من كتابة الطبيب والطبيب نفسه، حيث وصف الكتابة بالطلسم و الطبيب بالحكيم ، و في هذا ما يشير إلى أنّ الشاعر يمتاح من معجمه البدوي بعيدا عن المدينة ، إذ لو وصف الطلسم بالكتابة و الحكيم بالطبيب لفسدت علاقته بطرف الصورة الذي اجتلبه لوصف البرق .
و برغم أن بين الثلاثة حس مشترك في الكشف عن روابط الأشياء والظواهر الكونية فإن ابن المعتز فيما يبدو أبعد منهما عن الصور الصحراوية التي تجمع ذا الرمة و بن جدلان في فضاء معجمي مشترك و عالم واحد ، حتى ليبدو ابن جدلان هو الوجه الآخر لذي الرمة في صورته البدوية العامية ، فلو كان ذو الرمة شاعرا عاميا لكان ابن جدلان و لو كان ابن جدلان شاعرا فصيحا لكان ذا الرُّمَّة !
و قد مرت بي أكثر من صورة مشتركة بينهما في وصف الإبل و الرحل و أصوات الطبيعة المتقاربة بما يؤكد علاقة شعر الصحراء بعضه ببعض فصيحه و عامّيّه ، وبحسب د. سعد الصويان في كتابه الفذ “الصحراء العربية ، دراسة انثربولوجية” فالعلاقة بين الشعر الصحراوي ، في صورته الجاهلية و امتداده في صدر الإسلام ، و الشعر البدوي ، هذه العلاقة أبعد من العلاقة الأدبية في صورها و معجمها الشكلي ، إذ تتجاوز ذلك إلى العلاقة التاريخية التي تتعلق بالتشابه العضوي التلقائي و اللاشعوري الذي يمليه تشابه الظروف التاريخية و الجغرافية .