تبوك – سعد الشهراني
في كل زواية لنا حكاية جديدة تتحدث عن حقبة زمنية غائبة عن ذاكرة الأجيال التي لا تعرف أن بلدة أملج قديماً يوجد بها الكثير من المهن التي كانت سائدة آنذاك؛ وهذه المهن يمتهنها رجال وشباب سعوديون من أبناء المحافظة ساعدوا في النماء والتطور والعطاء ويحق لنا أن نفخر بهم، إلا أن الأجيال الحالية لم يدركوا تلك الحقبة الزمنية ولم يشاهدوها، وقلت لنفسي لا بد أن أوثق لأبرز هذه المهن وهي مهنة “الفران” كما كان يطلق عليها سابقاً أو الخباز بالمعنى العامي لها متى بدأت في أملج، وكيف كانت، ومن هم اصحابها؟!
ومن خلال البحث عن تاريخ هذه المهنة اكتشفنا أنها قديمة جداً في محافظة أملج ويوجد بالبلدة عدة أفران مثل: فرن خلف العراقي، وفرن حسن شلبي، وفرن عبدالسلام حلواني، وفرن بدري أبو النجا، وفرن عبدالقادر الطوري بالإضافة لفرنعبدالحميد الصيادي.
“الفران” مهنة لها مكانتها عند سكان البلدة ويقوم بعمل الخبز أو الرغيف الحجازي الذي يتكون من الدقيق والزيت والخميرة وحبة البركة والملح ويتم سكب الماء وبعد ذلك تتم عملية تخمير العجين ومن ثم تأتي مرحلة التقريص وهي كتل مدورة الشكل من العجين وفي المرحلة الأخيرة يتم فرد العجينة وادخالها الفرن ليتم اخراج الرغيف الحجازي.
هكذا كانت مهنة الفران، ولكن الأفران القديمة اندثرت ولم يتبقى منها سوى فرن أو مخبز العم “بدري أبو النجا” بعدما استمر إلى عام ١٤١٥ هجري تقريباً، ورغم توقفه عن العمل إلا أن الفرن لازال باقياً على حالته القديمة.
وبداية الحديث عن المخابز أو الأفران قديماً التقينا بالأستاذ “فيصل إبراهيم القوفي” معلم متقاعد عمل بمدارس أملج واكتشفنا أن لديه معلومات تاريخية ويمتلك مخزون ثقافي ومعرفة واسعة عن سكان البلدة وروى لنا حكاية هذه المهنة التي لم تكن موجودة في بلدة أملج لأن البيوت القديمة توجد بها أفران صغيرة الحجم تسمى “التنور”، وكانت بداية مهنة الفران في الستينات الهجرية وتعود لرجل اسمه “خلف العراقي” الذي قام بفتح فرن في بلدة أملج ومعه أشخاص آخرين يعملون بالفرن ويقومون بإعداد العجين وكانوا يجلبون الدقيق آنذاك من السودان وجازان ويصنعون منه الرغيف الذي يوزع على الفقراء والمحتاجين بالمجان على نفقة المغفور له بإذن الله المؤسس الملك عبدالعزيز طيب الله ثرآه واستمر لسنوات طويلة ومن ثم افتتحت أفران أخرى في البلدة.
ومن محاسن الصدف الجميلة التقينا بالأستاذ أحمد مرشود الكبيدي وهو موظف متقاعد من مكتب وزارة المالية بأملج رجل لديه إلمام بمهنة الفران في البلدة القديمة وأحد الرجال المكافحين الذين عملوا في هذه الأفران، حيث تحدث قائلاً: “كانت البلدة قديماً اعتمادها الكلي على السفن الشراعية ( السنابيك والقطاير ) ولأن اباءنا وأجدادنا ملاك وربابين السفن كانوا يجلبون البضائع والأرزاق من مصر والسودان واليمن إلى مرفأ أملج إلا انه في مطلع الثمانينات الهجرية توقفت السفن عن الإبحار وبسبب تغير الظروف تحتم علينا أن نبحث عن مصدر اخر للدخل والرزق ومن هنا عملت في فرن العم “عبدالسلام حلواني” يرحمه الله في سن عشرة أعوام، وكان ذلك في عام ١٣٨٢ هجري بإجرة يومية خمسة عشر قرشاً وقرصين من الرغيف، ويوجد أشخاص آخرين عملوا معي في تلك المرحلة أذكر منهم ( محمد عبدالسلام، وعطاالله حميدان، وعبدالله سليم، وثابت الحبيشي، ومعوض المحياوي، ومسلم خيشان ) وفي عام ١٣٨٣ هجري انتقلت للعمل بفرن العم “بدري أبو النجا” يرحمه الله بأجر يومي يبلغ ريال واحد، وأمضيت مع العم “بدري أبو النجا” لمدة عام تقريباً،
وكان معنا من العاملين ( رشيد مرشود، وعبدالرحمن عبدالله، وعتيق عبدالله، وأحمد محمد حسن ) وسعياً لتحسين دخلي انتقلت في عام ١٣٨٤ هجرية مرة أخرى للعمل بفرن العم “حسن شلبي” يرحمه الله بأجر يومي يبلغ ريالين ثم زادت الأجرة بعد ذلك لتصل إلى ستة ريالات حتى عام ١٣٩٢ هجرية وعندما بدأت بالعمل بفرن العم “حسن شلبي” كانوا هناك عاملين بالفرن هم ( محمد دخيل، وعتيق الصبيحي، ورويشد دخيل، ومحمد سعد، وعياد الضبعاني ).
وفي ختام حديثه قال الكبيدي: “نحن بحاجة أن نؤصل تاريخ مهنة الفران لأن الأجيال الحالية بحاجة للتعرف أكثر عن ماضيها الجميل”
ولكون فرن العم “بدري أبو النجا” كان من أشهر الأفران في تلك الفترة ويتردد كثيراً عند أغلب سكان املج، حتى أن الأهالي كانوا يتناقلون مقولة شهيرة تقول: “على الله ثم على عيش بدري” الأمر الذي قادنا الفضول لمعرفة المزيد عن هذا الفرن لنلتقي بأحد أنجاله وهو الأستاذ “عبدالله بدري أبو النجا” الذي كان الحديث معه ذو شجون رجل لا تمل من حديثه وطرائفه الجميلة التي تشعرك بالسعادة.
وعن تاريخ مهنة والده قال أبو النجا: “الذي عرفته من والدي رحمه الله أنه ولد ونشأ في ينبع ودرس بالمدرسة الأميرية بينبع وحصل على شهادة الصف الخامس الإبتدائي واكتسب وتعلم مهنة الفران في فرن “أبو هباش” رحمه الله وهو من أهالي ينبع حيث عمل والدي منذ الصغر مع أبن خاله “حسن شلبي” في هذا الفرن لفترة من الزمن ورأى أن مهنة الفران عليها إقبال كبير وفيها مكاسب جيدة لينتقل والدي بعد ذلك مع “حسن شلبي” إلى بلدة أملج وكان ذلك في أواخر السبعينيات الهجرية”.
وأضاف عبدالله أبو النجا: “بدأ والدي وابن خاله حسن شلبي بفتح فرن بأملج وقضى فترة من الزمن ليستقل بعدها والدي ويقوم بفتح فرن على نفقته الخاصة، وعلى ما أذكر أن والدي يرحمه الله كان يقوم بعمل الرغيف والشريك الحجازي والقرقوش ( الشابورة ) والمعمول المحشي بالتمر والسمن البري وفي الأيام الأخيرة من شهر رمضان المبارك كان يقوم بتجهيز وإعداد المبسوس والغريبة والمعمول بالتمر استعداداً لعيد الفطر المبارك وأيضاً في عيد الحج واستمر على هذا المنوال حتى عام ١٤١٥ تقريباً، مختتماً حديثه أنه يصادف الكثيرين ممن كانوا يعملون مع والده في تلك الفترة ويبدون فخرهم بأنهم عملوا بهذا الفرن”.
الفران مهنة وحضارة وهي من المهن التي كانت منتشرة في تلك المرحلة التاريخية بسواعد الآباء والأجداد وبلد بلا مهن لايوجد بها حضارة و هذه حكاية مهنة الفران التي بدأت في الستينيات الهجرية في بلدة أملج الصغيرة بمساحتها والكبيرة بحضارتها، إلا أن الحديث عن هذه المهن يبقى طويلاً وللأسف الكثير من هذه المهن اندثرت اليوم بسبب عدم المحافظة عليها من الأبناء وستبقى مهنة الفران من المهن الشريفة والمحببة العابقة بالذكريات الجميلة لاسيما فرن العم “بدري أبوالنجا” الذي له مكانة راسخة في ذاكرة الأهالي ووثق مكانته الشاعر “خضر زارع الحربي” معبراً بكسرة جميلة يقول فيها:
شبابنا اليوم ما يدري
ولا وقف يوم فالطابور
ذكراك ياعمنا بدري
الطيب والخبز والتنور
رحم الله العم بدري وجميع موتانا وموتى المسلمين.