جدة- البلاد
من أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها أي أمين عام للأمم المتحدة القدرة الفائقة على النشاط والحساسية والخيال إلى جانب التفاول لأن مهمته كمسؤول إداري أول للمنظمة تتطلب أن يكون دبلوماسياً وناشطاً إلى جانب أن يكون موفِقاً ومشجعاً.
كما أن عليه أن يحول المثل العليا التي يتضمنها ميثاق المنظمة إلى واقع ملموس ولا يتأتى هذا إلا لشخص متفائل ومحايد قادر على قراءة الواقع ببصيرة نافذة لاتخاذ القرار الصحيح خاصة وأن عمله يمنحه ولاية للتصرف تتسم باتساع غير عادي.
ولمكانة الأمين العام وحياده أهمية قصوى في مساعيه الحميدة لصالح الدبلوماسية الوقائية للحيلولة دون اندلاع النزاعات أو تصاعد وتيرتها.
وغني عن القول أن من مقاصد الهيئة ومبادئها حفظ السلم والأمن الدولي وإنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام وتحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء كما تقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها.
ومع كل هذا فقد جاء الأمين العام للأمم المتحدة الجديد أنطونيو غوتيريس بصورة مغايرة لم تعهدها المنظمة الدولية وإن كانت قد اعترتها فترات من الضعف في أوقات سابقة.
لقد طغت على غوتيريس سمات شخصية لا تؤهله لأن يكون محايداً ومبدعاً وقادراً على الاسهام في حل القضايا الساخنة التي تواجه العديد من دول العالم.
وليس غريبا أن يكون أول المبتهجين بتعيينه الكيان الصهيوني فهو شديد الوضوح في انتقاداته لمعارضي إسرائيل وبالغ الغموض في مواجهته لتحديها للقرارات والقوانين الدولية وهو أول أمين عام للأمم المتحدة يلقي خطابا أمام الكونغرس اليهودي العالمي. ولم يفعل ذلك إلا بعد أن أعلن مواقفه العدائية للفلسطينيين من ثلاث قضايا مفصلية في مسيرة الصراع مع العدو الصهيوني، وهي المسجد الأقصى ومدينة القدس، وطبيعة النظام العنصري للكيان، وتوفير الحماية له داخل الأمم المتحدة. فقد زعم أن المسجد الأقصى كان معبداً يهودياً ورفض قرار اليونيسكو باعتباره إرثاً إسلامياً كما تعهد، في خطابه أمام المنظمة اليهودية، بأنه سيتصدى لأي انحياز ضد الاحتلال الإسرائيلي داخل المنظمة الأممية. ووعد غوتيريس بأنه سيكون في مقدمة الصراع ضد معاداة السامية التي حذر من أنها في تصاعد في أوروبا والولايات المتحدة، ووصف ذلك بأنه غير مقبول بالمطلق.
وتعهد بالحرص على أن تكون الأمم المتحدة قادرة على القيام بكل الإجراءات الممكنة لإدانة معاداة السامية، ومحوها عن على وجه الأرض إذا أمكن ذلك.
كما خاطب المؤتمر اليهودي العالمي في نيويورك قائلاً: “بصفتي أميناً عاماً للأمم المتحدة، أعتبر أن دولة إسرائيل تحتاج أن تعامل كأي دولة أخرى”. وأضاف: “لقد أتيحت لي الفرصة لأظهر أنني جاهز للالتزام بهذا المبدأ، حتى عندما يجبرني ذلك على اتخاذ بعض القرارات التي تخلق بعض الحالات غير المريحة”. ولم يكتف بتأكيد التزامه، بل تعهد بأنه سيضمن التزام هؤلاء الذين يعملون تحت رئاسته بالمبادئ التي يعتبرها صحيحة.
وكانت هذه إشارة قوية للموقف الذي كان اتخذه عندما رفض تقريراً أعده خبيران دوليان لصالح منظمة “الاسكوا” التابعة للأمم المتحدة يكشف نظام التفرقة العنصرية الذي تنتهجه إسرائيل ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وقد أثار موقف غوتيريس هذا ردود فعل صاخبة في المنطقة العربية بعد استقالة الدكتورة ريما خلف، مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة والمديرة التنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) التي تتخذ بيروت مقرّاً لها وتضم 18 دولة عربية، بينها فلسطين. وتمت الاستقالة على خلفية تقرير أعده الأمريكيان ريتشارد فولك وفيرجينيا تيلي عن نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الذي تطبقه إسرائيل في الأراضي المحتلة. وفولك أستاذ القانون الدولي في جامعة بريستون ورئيس سابق للمنظمة الدولية لحقوق الإنسان، كما أن تيلي أستاذة العلوم السياسية في جامعة ألينوي.
ورفض غوتيريس التقرير ونتائجه وطالب بسحبه من التداول وعدم اعتباره وثيقة لمنظمة دولية رغم استناده إلى وثائق ومعطيات.
ومعروف أن غوتيريس صدم العالم العربي والإسلامي عندما اختار الإذاعة الإسرائيلية ليجري معها مقابلة يعلن فيها موقفه من الحرم القدسي ويقول بتأكيد الصلة بين اليهود والحرم القدسي. ولم يتوقف عند العموميات بل أعلن تبنيه للموقف الصهيوني .
وتبقى فلسطين كاشفة ازدواجية المعايير لدى غوتيريس الذي لم يحسب له أي تصريح أو موقف مساند للقضية الفلسطينية، ولم يحرز أي خطوة إيجابية في طريق التسوية السياسية للقضية، بل يواصل تصريحاته الداعمة للاحتلال الإسرائيلي، وخططه في التوسع بالمستوطنات.
ووضح للجميع أن أداء الأمم المتحدة في عهد أنطونيو غوتيريس بات ضعيفاً ومهزوزاً وبدلًا من أن يعيد الهيبة للمنظمة الأممية، أدخلها في مرحلة جديدة من الانهزامية والتخبط، والإخفاقات المتتالية.
وفي اليمن لم يشفع لأنطونيو غوتيريس تجديد مجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة الثقة في اللجنة الوطنية اليمنية للتحقيق وضرورة دعمها ومساندة أعمالها وبالتالي اعتماد تقاريرها ولكنه بدلاً عن ذلك وجه سهامه المسمومة للتحالف العربي الذي يساند الحكومة الشرعية وفق قرار مجلس الأمن رقم (2216) ويدعم المبادرة الخليجية لحل الأزمة بالإضافة إلى جهود المبعوث الأممي كما لم يلق بالاً لالتزام التحالف الصارم بالقرارات والمبادئ الدولية وكل ما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان وجهوده البارزة في حماية المدنيين وما يقدمه مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية من مساعدات ضخمة للأشقاء في اليمن دون تفرقة أو تمييز رغم التحديات والصعوبات التي يواجهها من قبل الإنقلابيين.
فقد تورط الأمين العام للأمم المتحدة في مخالفة المواثيق الدولية بإصدار بيانات ضد التحالف دون الرجوع له وللحكومة اليمنية الشرعية للتحقق من المعلومات الواردة في البيانات ليعتمد دون خجل على تقارير مضللة وملفقة ومسيسة من موظفين محليين ومن صنعاء التي يتحكم فيها الإنقلابيون بينما تغاضى عن الأعمال الوحشية للمليشيات الحوثية وجماعة المخلوع صالح وما ظلت ترتكبه من جرائم ضد الإنسانية واستخدام المدنيين كدروع بشرية والزج بالأطفال اليمنيين في المعارك العسكرية وتحويل المباني المدنية إلى ثكنات عسكرية والمجازر التي ترتكبها بحق المعارضين والتعذيب حتى الموت وتقسيم المجتمع على أسس طائفية بالإضافة إلى مواقف إيران وتدخلاتها في الشأن اليمني وتسليحها للحوثيين مما يطيل من أمد الأزمة ويضاعف من آثارها.
ومن أزمة إلى أخرى يتبين عجز غوتيريس كما في مأساة الروهينجا التي لم يجد تعبيراً يصفها به غير القلق بينما تمارس سلطات ميانمار أبشع أنواع التنكيل والتعذيب والطرد والإبادة الجماعية.
كما يمارس غوتيريس دوراً مشبوهاً في التعامل مع النظام الإيراني وما يمثله من تهديد صارخ لأمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط بتدخله السافر في شؤون دولها ودعمه للحوثيين في اليمن والمنظمات الإرهابية في بلدان أخرى.
كما عرف عنه العنصرية في التعامل مع قضايا المسلمين وقضايا اللاجئين خلال فترة شغله منصب رئيس مفوضية اللاجئين في الأمم المتحدة وهو أيضاً من وقف وراء العلاقات الحميمة التي نشأت بين إسرائيل المحتلة وبين اليمين المتطرف الغربي في محاولة لإعادة تشكيل المشاعر الغربية المعادية للمسلمين، وشن حرب في الشرق الأوسط أكبر بكثير من تلك التي شهدها في الأعوام الماضية.