محليات

صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

بقلم:محمد أكرم الندوي

قالوا: صِف لنا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفاً يقرّبها إلينا تقريبا غيرَ مورثٍ لنا إشكالا ولا تعقيدا، قلت: ما أبطأكم في دينكم؟ وما أشدَّ تهاوُنكم في شأنه؟ أليست الصلاةُ هي أول فريضة يتلقنها المسلم فقهًا وتطبيقا، ويتبصر فيها ويقوِّمها تقويما، فهي عمود دينه، والصلة بينه وبين ربه، وبها يزدلف إليه ويناجيه؟ قالوا: بلى، ولكن أذهلنا اختلاف الفقهاء في هيئتها وأفزعنا، قلت: أي اختلاف تَعْنُون؟ قالوا: تباينُ آرائهم: هل يرفع المصلي يديه محاذيا بهما منكبيه أو أذنيه؟ أفيرفعهما عند تكبيرة الإحرام ثم لا يعود، أم يرفعهما عند كل خفض ورفع؟ أيضع يديه على صدره أم تحت سرته أو يرسلهما إرسالا؟ وهل يفتتح صلاته بالحمد لله رب العالمين؟ أو يفتتح ببعض الأدعية؟ وكيف يركع ويسجد؟ وكيف يجلس بين السجدتين؟ وهل يتشهد بما رواه ابن مسعود؟ أو بما رواه ابن عباس؟ أو بما رواه أهل المدينة؟ وهل يوتر بركعة؟ أو بثلاث ركعات؟ بتسليمة أو بتسليمتين؟

قلت: لقد زَللتم وأسأتم إذ حَصرتم الصلاة في مسائلها الجزئية، وحبستموها في القضايا الفرعية، فما أوردتم لا يعدو تحسيناً للصلاة وتحليةً، كاللمسة الأخيرة في نَحْتِ تِمثال أو رَسْم صورة. قالوا: نَتطلع إلى أن تَجْلُو لنا ما غُمّ علينا جلاءًا. قلت: أضرب لكم مثالا، قالوا: هاته إن أسعفنا في التفقه لما نحن فيه.
قلت: أرأيتم إن خُيِّرتم بين فتاة حسناء فاتنة ذات طلعة بهية وجمال، وصاحبة مداعبات وبسمات، بديعة الخَلْق وطيبة الخُلق، وبين عجوز قبيحة كريهة دميمة شوهاء ميتة، جاءتهما ماشطة فأَوْلَتْهما عنايتَها تَجْميلا وتزيينًا، فبأيتهما تَكْلَفون وفي أيتهما تتنافسون؟ قالوا: في الأولى، قلت: أو لم تُجَمِّلهما الماشطة نفسها تجميلا؟ قالوا: بلى، ولكن الأولى تختلف عن الثانية في أمرين، فالأولى حية، والثانية ميتة لا روح فيها، والأولى جسمها غض طري ناعم، والثانية عجوز سَمْجة شوهاء. قلت: فأين يقع تجميل الماشطة منكم؟ قالوا: إنه آخر شيء يَخطر ببالنا ويدور بخَلَدنا.

قلت: كذلك الصلاة، لها جسد، وروح، وزينة، وصف القرآن الكريم جسدها وروحها، وجاءت السنة فنعتت زينتها، كما أن القرآن الكريم وصف لنا الوضوء جسداً وروحاً، وعَلَّمَناه النبي صلى الله عليه وسلم زينةً وكمالاً.

قالوا: فما جسدها؟ قلت: الصلاة في ظاهرها أن يُولِّي المسلم الطاهر وجهَه شطر المسجد الحرام، ويقوم ويقرأ شيئا من كتاب الله تعالى يرتِّله ترتيلا، ويركع ويسجد، وأن يحافظ عليها في أوقاتها وفي بيت من بيوت الله مع عباده الصالحين.
قالوا: فما روحها؟ قلت: القنوت، والخشوع، وذكر الله عز وجل، وأداؤها ابتغاء وجهه ومرضاته، وعقلُها، قال تعالى: “وقوموا لله قانتين”، “قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون”، “وأقم الصلاة لذكري”، و”فصل لربك”. قالوا: وماذا رُمْتَ بعقلها؟ قلت: قول الله تعالى “يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون” و”فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون”. وروينا عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها” وروي مثله عن بعض من تأخر عنهم من السلف، ورَفعه بعضهم، ولا يصح.
قالوا: فما كمالها وحسنها؟ قلت: حكاه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واختلفوا، واختلف من بعدهم، ولو كان هذا الذي اختلفوا فيه من قواعد الصلاة وأصولها لاتُّهِموا على عدم ضبط أهم فريضة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولكنهم ضبطوا عنه ظاهر الصلاة وباطنها ضبطا تاما، وهي الصلاة التي يعتمد عليها فلاح عباد الله المؤمنين، وأما ما اختلفوا فيه فهو من الكمال والتحسين الذي لا تضر فيه الوجوه المختلفة والأشكال المتنوعة، وإنما تُعد سعة ورحمة، كما أن المرأة إذا كانت حسناء لا يُهمها كيف يمشط شعرها ويجمَّل وجهها وسائر جسدها ما دامت ماشطتها خبيرة بعملها،

كذلك المصلي إذا ضَبط ظاهرَ الصلاة وروحها، فلا جناح عليه أن يأخذ كمالها وزينتها من فقه أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد بن حنبل أو غيرهم من علماء الأمة الربانيين لسنن نبيهم صلى الله عليه وسلم وآدابه. قلت: وهذه الصلاة هي التي تقَرُّ بها العيون وتتسلى النفوس، وتُشفى الجوانح والصدور، وبها تَغنى القلوب ويرتاح المكروب، وهي مفزع الخائفين المتقين،

ومقصد الأخلاء المشتاقين، ومأوى الأصفياء المحبين، تراهم ركعا سجدا، تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا، وهي صلاة الأنبياء والمرسلين، وهي التي قال فيها أبو الأنبياء وخليل رب العالمين “رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي”، وهي التي صلاها زكريا فنادته الملائكة، وهي التي أُمِرت بها المرأة التي ضربها الله مثلا للذين آمنوا: “يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين”، وهي التي كان نبينا صلى الله عليه وسلم يفزع إليها إذا حزبه أمر، وكان صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، وهي التي قال عنها ربنا عز وجل: “فاسجد واقترب”.

قالوا: صلينا مدى دهرنا وطيلة عمرنا صلاة غير هذه، ولم ننتبه إليها انتباها ولا آنسناها إيناسا، قلت: اذهبوا فصَلُّوا فإنكم لم تصلُّوا. أوكسفورد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *