السمّ القاتل للحب الحقيقي
لو تأملنّا جيداّ من حولنا في لحظة تجرد عن الذات وقمنا بالتفكير عميقاً وبعيداً عن كل مؤثرات إعاقة صفو التركيز الفكري وقمنا ببحث في الطبيعة من حولنا سوف نجد بأن الحبّ هو قانون هذه الحياة الدنيا بكل مكوناتها الجيولوجية والفيزيولوجية والبيولوجية والسايكولوجية ولن نتعمق في الجزئيات بل ننظر ونتأمل في العموميات الواضحة الصورة أمام أعيننا ومن زحمة وضغوط الحياة اليومية فإننا لا نكاد نراها.
إنّ ما يكون من بدايات الحب في العلاقات العاطفية الواقعية في المجتمعات الإنسانية ،جعله الإنسان نهاية الغايات فالعاطفة والغريزة بين الزوجين هي بداية ومقدمة لفتح مجرى الحب الحقيقي وليس نهاية الطريق أو غايته العظمى لذلك نرى معظم الأزواج يصلون إلى مرحلة النهاية سريعاً بالفشل الذريع لعدم معرفتهم بقوانين وماهيّة الحب الحقيقي الدائم والطبيعي ونتيجة الفهم الخاطئ بأنّ الحب هو العاطفة والغريزة فقط وهما في الحقيقة وسيلة فقط لبلوغ قمة الحب الحقيقي ذلك المحيط الواسع ولكن عندما تنعكس القوانين الطبيعية فلا بدّ من حصول آثار جانبية نسميها الخراب.
توقفت عند قراءة هذه الآيات من سورة الإسراء زمناً طويلاً وتوالت بعدها الأسئلة على نفسي وخاطري وفكري : ماهو الإحسان ؟ وكيف يكون ؟ وماهي العلاقة بين الإحسان وبلوغ الوالدين الكبر ؟ وكيف يكون خفض جناح الذل من الرحمة ؟ والسؤال المحيّر أكثر هو قوله تعالى : ( ربكم أعلم بما في نفوسكم ..) وقد وجدت الإجابة عليه بنفس الآية وعقبها : ( إن تكونوا صالحين) …
يقول الله تعالى : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغّنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربيّاني صغيرا ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا ).
إنّ الله تعالى خلق الكون أجساماً ووضع لها قانون حياة ظاهر فلا حياة بلا ماء وغذاء وهواء لكي تستمر دورة الحياة على الأرض ، ولكن وضع قانوناً آخر غير مرئي هو قانون الحب الفطري في جميع الكائنات ومنها الإنسان فما هو هذا الحب ؟ وهل هو ما نعتقده أو مانتداوله فيما بيننا في هذا الزمان ؟ أم أن هناك حب آخر غائب لم نجربه ؟ ..
ومثال على ذلك الأم لقوله تعالى : ( أحدهما ..) ونادراً ما يكون هناك أم لا تحب أولادها فنعتبرها شاذة عن الفطرة ، لكن نحن بصدد الفطرة والخلقة الربانية فكل أم هي شجرة من المحبة يكبر أبناؤها تحت ظلالها ويأكلون من ثمرها هذه الشجرة تقدم الحب تفرح لفرح أبنائها وتزداد سعادة عندما تراهم يلعبون ويقفزون على ظهرها
أو ينامون على صدرها ،،هي أعطت الحب وتشعر بالسعادة بعطائها تزرع خلال سنين طوال بذار الحب في نفوس أبنائها ويكبر الولد بعد أن يكون قد أخذ خلال السنين الطوال كل الحب والحنان فأحياناً يعترف بحب أمه وعطائها وأحيانا قد تشغله الدنيا ويضيق وقته عن السؤال عن أمه بعد أن يكون قد أنشأ أسرة صغيرة شغلته فيها الزوجة والأطفال عن أمه والسؤال عنها والأم تكون قد بلغت الكبر ولكن الحب بداخلها لابنها لم يتغير هو هو حتى تزعجه بسؤالها المتكرر عنه بل أحياناً تلّح في السؤال والاهتمام ويبدأ ذلك الولد بالتذمر من كثرة السؤال وغالب الأحيان يقول لها : يا أمي لست صغيراً ، إن لم يقل لها : ( أُفٍ) وهي بمعنى التذمر الداخلي من حبها وسؤالها.
لقد كنت أيها : ( الأنا) وأقصد الولد الأناني تأخذ وتنهل من ذلك النهر نهر الحب والحنان كلَّ العطف والرعاية فكيف تريد الخلاص الآن من كثرة سؤالها عنك كيف تنكرها ؟ هل السبب كثرة المشاغل وضغوط الحياة ؟ لا إنها شماعة وأكذوبة وحجج واهية …وهمٌ آخر تعلق عليه : (الأنا ) لذلك طلب الحق جلّ جلاله من الولد الإحسان للوالدين والإحسان هو العطاء الكامل والأكمل بغضّ النظر عن طبيعة الذي تقدم له الإحسان إن كان سيئاً أو حسناً والإحسان لمن قدم لك الحب هو أن تقدم له أفضل مما قدّم لك وتتفنن في عطاءك ..هذا لو كان الولد لايعرف : (الأنا) ولكن للأسف غلبت هذه الأنا على الجميع إلا من رحم ربي لأن حب الذات أصبح هو المسيطر في هذا العالم المادي المقيت واندثر الحب في أعماق أعماق النفس وكأنه مدفون مع الموتى.
لذلك كثرت الكراهية والحسد والنميمة والشتائم وكثر معها القتل والاحتيال والنصب والكذب والتدليس … إنّ غياب الحب الحقيقي هو ظهور هذه الأفعال الشائنة الخطرة في المجتمع .
والدواء والحل نقول : إن أردت أن تشرب ماء عذباً فما عليك سوى حفر بئر بأن تزيل الأحجار والأتربة من باطن الأرض لتشكل فراغاً فيها حتى يخرج الماء العذب ..كذلك أنت أيها الإنسان الحب موجود بباطنك بالفطرة فما عليك سوى الحفر والبحث عن منابع الحب من داخلك لأنك ردمته بتراب : الأنا ولن يظهر لك إلا إذا تخليت عنها الأنانية تلك الأحجار التي تراكمت بداخل النفس لن تصل للماء العذب بدون إزالتها لتشرب من نبع الحب الصافي الحقيقي وليس الحب المزيف الذي نسمعه أو نراه أو يعيشه البعض .
إن الحب الذي أخذته من أمك أيها الولد وأنت صغير وجمعت منه زهور سنينك وربيع شبابك وهي نفس الورود التي كانت تزيّن أمك أهدتها إليك لتكبر على عينها وهي تذبل أمامك ووزعت جميع زهرات سنين عمرها على أولادها فأصبح طوق الورد هذا يزيّن رأسك أو قلادة تتدلى على صدرك ولكن الأنا أخفتها عن الظهور أو أطلقت تلك الطاقة من الحب إلى جهة أخرى وتنكرت لأصل تلك الشجرة الأم شجرة الحب والحياة تلك الشجرة التي منحتك كل الحب والورد والأزاهير …
إن الله تعالى برحمته يذكر الأبناء بتلك الشجرة وقد كنّى الله عن هذا الحب بصفة الرحمة فقال : ( واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة ) وما الرحمة إلا ذلك الحب الكبير أليست رحمة الله وسعت كل شيء ؟
الحب يقدم الحلول للآخرين والأنا تقدم المتاعب والحزن للآخر …
التصنيف: