تجارة الوهم في بلاد اليانكي

• عبدالرحمن آل فرحان

مخطئ من يظن أن الاتجار بالوهم امتياز حصري في البلدان الفقيرة والمتخلفة ، بل الحقيقة أنه موجود وبقوة حتى في أكثر البلدان ازدهاراً وتطوراً ، الفرق الوحيد هو طبيعة الهاجس الذي يتلاعب به المتاجر هنا أو هناك ، فالذي هاجسه المس والسحر والثراء السريع ليس كمن هاجسه النبوغ والتفوق والعلم والشهرة ، فمثلاً حدث في أواخر الثمانينات الميلادية أن نجح أحد التجار الانتهازيين في أمريكا بتأسيس بنك ، بالطبع ليس للمال .. إنما للحيوانات المنوية ، نعم للحيوانات المنوية .. ولكن ليس أي حيوانات منوية ، إنما فقط للفائزين بجائزة نوبل ، وهذا هو جوهر الفكرة التي منها انبثقت الخدعة ، أسماه (بنك نوبل للسائل المنوي) والهدف منه كما تلاحظون هو بيع تلك السوائل لمن يريد إنجاب أطفال نابغين وعباقرة وذوي قدرات كتلك التي يتمتع بها العلماء والمخترعين بصفتهم المتبرعين لتلك الأمشاج ، وبالطبع كل عالم بحسابه ، فالأدباء ليسوا كالأطباء أو علماء الذرة وهكذا ، هذه الفكرة السيئة جوبهت بالرفض من قبل بعض المفكرين والحقوقيين ورجال الدين علاوة على معظم علماء نوبل أنفسهم ، ومن ضمنهم العالم الكيميائي (جورج والد كي) أحد الفائزين بجائزة نوبل في الكيمياء ، الذي قيل أن مندوبي تلك الشركة توجهوا له ذات مرة ليطلبوا منه التبرع بسائله المنوي ؛ فما كان منه إلا أن قال ساخراً ” إن كان ولابد .. خذوا سائل أبي..ذلك الخياط الفقير..فهو من أنجب -حسب زعمكم- العبقري الذي أمامكم .. أما سائلي أنا فلم يجلب لي سوى ولدين أعظم ما يقومون به طيلة النهار العزف الردئ على القيثارة ” .
المشروع في نهاية المطاف سقط سقوطاً ذريعاً .. لكن بعد ماذا؟ بعد أن هبش التاجر هبشته المربحة ، أما لماذا سقط ؟ فلأن المشروع علاوة على أنه تجاوز أخلاقي مقزز تأباه الفطرة الإنسانية السليمة وتجاوز ديني ترفضه كافة القيم السوية فهو قائم كذلك على أساس علمي غير صحيح ، فالإنجاب من وجهة النظر الحيوية هو توليفة غير مقصودة لنحو ٢٥ ألف جين نصفها من الأم والنصف الآخر من الأب ، هذه التوليفة ليست سوى احتمال من نحو ٥ ملايين احتمال للمعلومات الجينية لما يزيد عن ٥ ملايين حيوان منوي ، أحدها فقط نجح في تخصيب بويضة واحدة ؛ والتي هي الأخرى تعد احتمالاً من نحو ٣ آلاف احتمال للمعلومات الجينية لـ نحو ٣ آلاف بويضة تدخرها الأم بيلوجياً في مبيضها ، ما يعني.. أن حتى مسألة التكهن فقط بشكل وصفات المولود مستحيلة وغير ممكنة ، فما بالكم لو كان الهدف هو صفات بعينها كالعبقرية والجمال ونحوهما ، وهي مسألة بديهية يعرفها حتى الذي ليس له علاقة بعلم الجينات والمورثات كجورج برنارد شو الذي تفاجأ بإحدى المعجبات الجميلات تعترض طريقه بعد أن خرج من إحدى الحفلات اللندنية ، فقالت له ” ما رأيك أن ننجب طفلاً يأخذ مني هذا الجمال ويرث عنك العبقرية ؟؟ فقال لها ساخراً : حسناً .. لكن ماذا لو أخذ مني القبح وورث عنك سخافة العقل ؟ ” لقد صدق ، ولو كان الأمر بهذه البساطة لظلت العبقرية حكراً على نسل العبقري الأول ، ولظلت الوسامة محصورة في عرق واحد ، لكن ماذا نقول ؟ إنها الهواجس التي قد تفعل بالعقول ما لا تفعله أحياناً أقداح الخمور ، وتجعل من صاحبها مطية للخديعة دائماً ، والمحظوظ هو من يدرك طبيعة هواجسه قبل أن يجد نفسه مبصوق عليه أو ضحية لمشغّل وهمي للأموال أو في قائمة من قوائم المضحوك عليهم شبيهة بقائمة ماكينة الزئبق الأحمر .. ماكينة ( سينجر ) .. شكلكم نسيتوا !!!!
@ad_alshihri
[email protected]

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *