حبيبتي جدة
في تلك الأيام الخوالي كانت جدة تحاط بسور يلف جهاتها الأربع، يحيط بها احاطة السوار بالمعصم، قناديلها الشاحبة تضحي أزقة حواريها الأربع، تنتشر فيها مقاعد أشبه بالأندية الأدبية الثقافية، ودكات تزين دورها ومنازلها، مدينة أو شبه مدينة تقطنها أسرة واحدة، من شدة الألفة والتآلف، الكل يعرفك، ويعرف أفراد أسرتك، عشت بجدة في تلك الأيام، ويا لها من أيام، لم يتغير الزمان ولا المكان ولم تتبدل الدور والأزقة، ولكن تغير الناس والمناخ الثقافي والاجتماعي بفعل “الطفرة” النقلة الحضارية التي وفدت إلينا مع الذين أتوا بعد أن نهلوا من العلم بالخارج، أتوا إلينا بكل ما عايشوه من عادات وتقاليد بل وأفكار ومفاهيم في كل مناحي الحياة.
رعى الله تلك الأيام، فقد كانت حافلة بكل ما تشهيه الأنفس، الوفاء تفيض به النفوس، رضعوه من ثدي أمهاتهم، وغرسه فيهم أباؤهم الأكرمون، يحن الأكبر على الأصغر ويوقر الصغير الكبير، كان رب العائلة لا يأكل حتى يطمئن بأن كل أهل البيت قد أكلوا، وإذا ذهب إلى النورية لجلب بعض الخضار والفاكهة كان يتباهى بحمل الزنبيل بيده تارة، وعلى رأسه تارة أخرى، يوزع مما يحمله على كل من يقابله من أبناء الحي، وإذا جلب سمكاً من البنقلة فلجيرانه منه نصيب، وفي شهر رمضان المبارك ترى التباسي تتبادل بين الجيران والأهل في مودة ظاهرة!
وأتحسر الآن في عيشنا في غابات الاسمنت والشقق حيث لا يعرف الجار جاره، ولا يكلف نفسه عناء السؤال عن أهله وأقاربه، وقد طغت المادة على كل وجوه الحياة، وصار الإنسان يقاسي بما لديه من مال.
إنني حقيقة أعيش في مدينة غير تلك التي كنت أعيش فيها في سنوات طفولتي وصباي، نفس المدينة، جدة عروس البحر وفي نفس الحي، إلا أنني أنكر أنها تلك المدينة، فقد تغيرت ملامحها، وصار كل شيء فيها غير ما عهدته فيها .. وقديماً قيل:
وما غربة الإنسان في غير داره
ولكنها في قرب من لا يشاكل
صرخة:
أعيدوا إليَّ حبيبتي جدة!.
التصنيف: