ذات يوم وكان يجمعنا مجلس أدبي تساءل احد الحاضرين من أولئك الذين عركوا الحياة وعركتهم وذاقوا نعيمها وشقوا بجحيمها تساءل يومها قائلاً:
لماذا يعيش العالم هذا الصراع الأبدي؟
لماذا هذا الحرص الشديد على أن تسود روح الغاب حياته واتصالاته؟ “كان ذلك قبل ظهور داعش والداعشيون”.
كان السؤال يومها يطرح علينا ولم نجد اجابة محددة ومقننة فكانت اجابات متفاوتة ومتضاربة وان كانت لا تخلو في جانب منها عن السبب الحقيقي لهذا الصراع الرهيب الذي يعيشه هذا الانسان على هذا الكوكب.
تذكرت هذا وانا اقلب أمس في احد كتب السيرة عندما مررت على كثير من صور الحياة الفاضلة التي كان يمثلها ذلك المجتمع الصغير في عدده الكبير في فعله.. البسيط في مظهره القوي في معناه.
ذلك المجتمع الذي أوجد “المدينة الفاضلة” في العصر الفاضل في مدينة النور والعلم والايمان المدينة المنورة.
مجتمع فيه بلال الحبشي سيدا وأمية بن خلف سقط متاع، سلمان الفارسي مقرباً من وهج الرسالة يأخذ منها ذلك النسب الشريف وأبو لهب تتب يداه..
مجتمع لا يعرف التعنصر ولا تحركه العصبية ولا تحدد مساره الأهواء..
***
كان مجتمعاً فاضلاً ساد الدنيا كلها وهزم تلك النفوس الحيارى وجعلها طيعة لينة. رغم وجود بعضاً من المنافقين.
كانت صور مشاهد معركة (الفرقان) شريطاً في ذهني يمر بكل عطره وبك أرجه الرائع كلما مررت ببدر.. لك ان تتخيل ذلك الجيش في أحسن مباهاته عدة وقوة ومباهات في مقدمته عتبة وشيبة والوليد ومن حولهم أمية بن خلف وطواغيت ذلك الزمان تحف بهم مظاهر القوة والجبروت.. هذه خيولهم لها صهيل يملأ الفضاء وأصوات طبولهم لها صداها تردده تلك الجبال.
وفي مواجهته تلك الأمة قليلة العدد والعدة وكثير الايمان والعشق للشهادة كان ذلك المجتمع قليل العدد والعدة جيش ابدا لا تنطبق عليهم لفظة جيش الا مجازاً فهم قليلو العدد وبسيطو العدة في لحظة كان هذا الجيش يحمل الموت الزؤام.. لتسقط رؤوس وتطير ايد.. وتملأ الفضاء كلمة الله أكبر.. لتعود قريش مولهه يطحنها الذل ويلفها العار الى مكة لتتحول بيوتها الى مناحات عويل وصراخ حقد.
***
وتمر الأيام وتصر النفوس الكافرة على التآمر على غسل تلك الهزيمة التي ذهب فيها أولئك الطواغيت.. ليكون اللقاء في أحد، هذا الاصرار العجيب الذي كانت عليه قريش لدحر هذه الدعوة الكريمة وهذا الحرص على اطفاء هذا النور العظيم الذي أعمى قريش عن تبين طريق الحق.. وجعلها كالأحمق الذي لا يدري ماذا يفعل.
وكانت هند وصويحباتها وهن يرتجزن تحريضاً على القتال.. وأبو سفيان في مقدمة الجيش يشهر سيفه وتتكرر اللقاءات ويكتب النصر لهذا الدين العزيز وفي يوم الفتح العظيم تتحول مكة الى مدينة يسكنها النور من جديد ليبني هذا المجتمع الكريم.. تلفه الاخوة وتسيره الطيبة.
***
تذكرت كل ذلك في لحظة شوق الى ذلك الماضي الرائع.. ورحت اتخيل للحظة ان هذا العالم الذي نعيشه لا توجد به هذه الصراعات ولا تشتته هذه الحروب التي تجري في جهاته الأربع ولا تموت كل يوم عشرات بل مئات النفوس وان كل العالم بشرقه وغربه وجنوبه وشماله ووسطه يعيش حالة سلام.
تخيل للحظة أن لا تنازع يفصل بينهم ولا صراع بين بلدين ولا عوائق تقطع التنظيم بين دوله ولا داعشيون يعبثون فتكاً وقتلاً.
لك ان تتخيل هذه الكميات الهائلة من وسائل الدمار والتدمير ابتداء من المسدس حتى حرب النجوم مروراً بالأسلحة الذرية والاشعاعية ليست موجودة ولم يعرفها هذا العالم.
***
لك أن تتخيل هذا العالم الواسع والكبير خالياً من الصراعات العرقية واللونية لا أسود يحقد على ابيض ولا ابيض يحتقر أسود.. ولا غني يمتهن الفقير ولا معدم يتمنى قطع راس هذا الغني.
لك أن تتخيل هذا العالم الواسع الكبير لا طبقات ظالمة فيه ولا اقليات تعيش الحرمان.. الكل يعيش في ظل نظام اخوي تربطهم علاقات انسانية متساوية لك ان تتخيل هذا العالم الواسع الكبير لا فواصل بين ناسه ولا لغات تحول دون تفاهمه.
لا تذهب بعيداً ولنتخيل عالمنا الاسلامي الواسع الكبير هذا تجمعه وحدة اسلامية تربطه برباط اسلامي صحيح تعطيه قوة التواجد والوجود لا فوارق بينهم تجمعهم كلمة مسلمين فلا طوائف ولا يحزنون كما كانوا على عهد رسول الله مسلمون فقط.. لا تحول بتباين لغايتهم بينهم. اذا تألم من في اقصى الشرق سمعه من هو في اقصى الغرب.
تخيل هذا العالم الاسلامي الواسع الكبير يأخذ بهذه الآية الكريمة.
“يا أيها الناس ان خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله اتقاكم”.
ماذا يكون عليه هذا العالم الاسلامي هل نكون هكذا مشتتين منهزمين.
***
لا تذهب بعيداً ولنتخيل عالمنا العربي الكبير هذا بلغته الواحدة ودينه الواحد يعيش وحده عضوية لا هويات تجزئهم تحت مسميات متباينة ومتفاوتة لا حدود تفصل بينهم.
تخيل ذلك الذي يسكن في طرف الشاطئ الاطلسي غرباً في امكانه أن يصل الى اقصى أطراف الشاطئ الشرقي “شرقاً” مخترقاً جبال الاوراس وسهول قرطاج وسواحل النيل دون ان يقف في سبيله سائل يطالبه اثبات هويته.
لك أن تتخيل هذا العالم العربي الكبير بلغته الواحدة ودينه الواحد لديه وزارة تعليم واحدة ووزارة دفاع واحدة.. ووزارة صحة واحدة.. الخ.
لك أن تتخيل كل هذا العالم العربي الكبير بلغته الواحدة ودينه الواحد يتعامل بوحدة نقدية واحدة لك أن تتخيل هذا وغيره.. ومن ثم ماذا ترى بكل تأكيد سوف تصل الى نتيجة تقول أنك انسان حالم يعيش خارج عصره.
لا يهم فهذا الحلم اللذيذ هو الواقع الذي ضاع من بين ايدينا بعد ان تركنا ذلك المجتمع البسيط في تلك “المدينة الفاضلة” تركناه وتركنا كل ما جاء فيه من أسس وقيم..
ويا أمان الخائفين.