في لحظة تجلت فيها رحمة الله وعظيم فضله للعبد الفقير، انظر إلى هذه اللحظة ولا أزال إنها كانت لحظة هدايتي. كنت أمتلك شاليه إيجار قرّر أصحابه هدمه لتطويره، وكان ذلك أول ما خلصني فيه الله من جزء كبير -البيئة التي كانت تحيطني- تزامن في نفس الوقت انهيار الشركة التي أعمل بها وانتقال مركزها إلى مدينة بعيدة يتطلب الأمر أن أمني نفسي ببيئة مختلفة فحاولت الاستقالة، ولم أكن أدري أنني كنت كالذي يفر من سعادته ومن تاريخ ولادته واليوم الذي سأحيا فيه بعد موتي، فرض عليّ الانتقال واحترام الأمر، فانتقلت مجاراة الحال حتى أجد عملاً آخر فعرضت عليّ وظائف كثيرة طيبة، لكني كنت أجد أحد العيوب في الوظيفة، فأفضل الاستمرار في عملي. وقد كان في انتقالي لتلك المدينة خير كثير فقد كانت فرصة طيبة لإعادة ترتيب أوراقي وأفكاري. بدأت أفكر في أبعاد كثيرة للحياة وصرت أنظر للحياة بعين أكثر بعدًا وأفكر بعمق في كل الأحداث التي كانت تحيط بي، وأصبحت أفكر في إنجازاتي وآثاري حتى تاريخي، ثم توالت المواقف التي كانت عاملاً مساعدًا للوصول إلى القرار المصيري.
كفى بالموت واعظًا
في إحدى المرات كنت أسافر عبر طيران شركتي الخاص، والطائرات الخاصة تهبط في مدرج طائرات كبار الزوار، وعلى غير العادة تأخر سائقي لأمر مرتب ومدبر من رب العالمين، وأثناء انتظاري في صالة الطيران لاحظت أن هناك حركة غير عادية في المطار، المكان مزدحم بالسيارات لكن أي سيارات؟؟ سيارات لم أرَ مثلها من قبل بهذا الشكل وهذا العدد، وكأنه موكب ملكي وأشكال من البشر ترى أثر نعم الله على وجوههم، فأيقنت أن هناك شخصية هامة على وصول. وصلت طائرة لأحد كبار تجار المدينة كان مليونيرًا طالما تنقل بطائراته الخاصة لإبرام الصفقات أو الفسح، أما هذه المرة فقد كان محمولاً توفاه الله في بلد أجنبي، وجيء به لدفنه في بلده. جلست أراقب مراسم النزول والأبناء والأحفاد يتناقلون النعش إلى سيارة الإسعاف ووجوم مخيم على وجوه الجميع، لكن وكأني بهم كل قد فتح فاه انتظارًا للملايين التي ستكون من إرثه. تابعت المشهد حتى النهاية لكن بعقل ليس عقلي وإحساس ليس إحساسي، وما أن انتهى كل شيء حتى وصل سائقي وركبت وكل تفكيري بهذه الدنيا ما صنعت بهذا المليونير؟ ماذا عساه قد أخذ معه؟ وكيف إذا كان لم ينفق أمواله في مرضاة الله؟؟ أو كان يحارب بها الله ورسوله؟؟ كل هؤلاء الحضور ماذا كان يدور في رؤوسهم؟؟ هل مات يوم مات سعيدًا، راضيًا، قانعًا؟؟؟ ها هو يموت رغم كل أمواله بنفس الطريقة التي مات بها جدي وعمي وسائر أقاربي، فماذا صنعوا وماذا أخذوا من هذه الدنيا مع اختلافهم؟ وأسئلة كثيرة لا تحضرني أوشك هذا الحدث أن يجهز عليّ رغم أن أحداثًا كثيرة قد سبقته.قضيت عطلة الأسبوع مع أهلي وعند وداع أمي طلبت منها أن تدعو لي في صلاة الفرقان.لم أستطع النوم في هذه الليلة وكانت روحي فرحة من شيء مجهول تترقبه حنينًا وشوقًا، شيء لما يأتِ بعد إلا أنه الأنس برحمة الله الذي أدركته روحي قبل جسدي، واستعددت للقاء الحبيب بكل لهفة. لم أكن أعرف قيام الليل أو صلاة السحر وإلا لما ترددت في أن أقضي الليلة فيها؛ لذلك ظللت أتقلب وأتقلب إلى أن أذن لصلاة الفجر فقمت من فراشي للوضوء، وخرجت في ليلة ظلماء أضاءها الله لي وأنار دربي.. مشيت الهوينى أحمل قدمًا وأضع قدمًا بنشوة.ما زلت أطلق على هذه الصلاة صلاة الفرقان فقد كانت صلاة لم أعهد مثلها من قبل، فقد فرقت بين الظلمة والنور والحق والضلال.
مفارقات في طريق التوبة
عدت إلى بيتي لا أدري ما الذي أصابني، الآن قد أدركت جوارحي ذلك الأنس الروحي فخررت ساجدًا، وانهارت قواي وانهمرت باكيًا حتى نسيت نفسي لا أدري ما الوقت الذي استغرقته، استيقظ الجميع على نحيبي وعويلي على ما فرطت في جنب الله، ولم أشعر بأحد وتوالى الخير وتوالت فضائله عز وجل التي لم أكن أحلم بها، ومن وقتها لم أترك بفضل الله صلاة الفجر والجماعة عامدًا. وفي طريق التوبة حدثت لي بعض المفارقات فقد كنت محترف لعب «البلوت» أحد ألعاب القمار ومن المدخنين للشيشة. ذات ليلة تركني أصدقائي بمفردي فقلت فرصة لقيام الليل والأنس مع الله، وكان ذلك في أول الليل.. وقعت عيني على الشيشة فزينها الشيطان لي فأعددتها وتهيأت لي وقالت هيت لك، وضعتها على فمي ورشفت أول نفس فوجدته مثل العلقم سبحان الله مغير الأحوال ما ذلك المرار؟؟ ساعتها خيل إليّ أن أحدًا يناديني: يا من أردت لقاء الله في آخر الليل ترى هل يدعك تلوّث نفسك في أول الليل؟؟ أذلك الذي تُعِدّ نفسك به لمناجاته في ساعات السحر؟ فتركت الحرام، وقمت لأناجي ربي الذي نجاني وتاب علي.
*عن كتاب «عالم بلا مشاكل».