اقتصاد الأرشيف

الصيـن والهنـد ..القطبـان المتعـاونان المتنافسان

ترجمة محمود عبده علي
تقع القارة الآسيوية في قلب الجدل الدائر حول مستقبل النظام الدولي، ونمط توزيع القوى بداخله، فالعديد من الآراء قد ذهبت إلى أن القرن الحادي والعشرين سيكون \" قرنا آسيويا \" بامتياز، في ظل صعود قوى آسيوية كبرى مثل الصين والهند واليابان .
لكن اكتمال هذه الفرضية من عدمه يتوقف على عدد من الأمور أبرزها ما يتعلق بالاختلاف وتضارب المصالح بين هذه القوى الآسيوية الصاعدة، بشكل قد يلقي بظلال من الشك على تلك الفرضية، وبالتالي فإن دراسة نمط العلاقة بين قوتين صاعدتين – الصين والهند – من هذه القوى أمر يحظى بأهمية كبيرة .
ويتناول تقرير حديث صدر عن مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية هذه العلاقة حيث يخلص إلى أن العلاقات بين البلدين وإن شهدت تطورا تعاونيا ملحوظا في عدد من المجالات، فإنها تبدو علاقات غير متماثلة، بل وتنافسية كذلك، الأمر الذي قد يؤثر على وضع هذين القطبين في التأثير على المشهد الدولي .
فالهند تعتبر الصين جارا إقليميا، وربما صديقا، تعقد معه علاقات اقتصادية مثمرة جدا، لكنها في ذات الوقت تمثل التحدي الإستراتيجي الأكبر .
أما الصين فترى أنه حتى الآن لم تتمكن الهند من منافستها إستراتيجيا، لكن في حال تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني، واستمرار التصاعد الهندي اقتصاديا، فإن النظرة الإستراتيجية للصين تجاه الهند قد تتغير .
وفيما تثق الصين في قدرتها على البقاء في وضع إستراتيجي أفضل من الهند، لكنها في الوقت نفسه قلقة من العلاقة المتنامية بين الهند والولايات المتحدة، خاصة أن الهند تبقى شريكا إستراتيجيا متواضعا تجاريا للصين .
زيادة التعاون التجاري
يعد البعد الاقتصادي أحد أبرز صور التعاون الهندي – الصيني، فالقطاع الاقتصادي في البلدين ينمو بصورة كبيرة، ورغم توقع انخفاض نسبة عدد السكان في الدولتين على مستوى العالم من ٪٣٧ إلى ٪٣٤ بحلول عام ٢٠٤٠، فإن مساهمة البلدين في
الناتج المحلى الإجمالي العالمي – المقدر بتعادل القوة الشرائية – سترتفع من ٪١٦ إلى .٪٥٢ وقد تجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين ٣٨ مليار دولار في عام ٢٠٠٧، وبحلول عام ٢٠١٠ سوف يصل إلى حوالي ٦٠ مليار دولار، بشكل يفوق التوقعات السابقة التي ذهبت إلى أن حجم التبادل السنوي سيكون ٤٠ مليار دولار فقط .
وتعتبر الصين الشريك التجاري الأكبر للهند فيما يخص التجارة السلعية، على الرغم من أن واردات الولايات المتحدة من خدمات تكنولوجيا المعلومات الهندية أوصلت التبادل التجاري بين البلدين \" الهند والولايات المتحدة \" إلى ٥٠ مليار دولار .
ورغم زيادة معدلات التبادل التجاري بين الهند والصين، فإن الترتيبات التجارية بين البلدين غير متوازنة وغير منسجمة، حيث تعاني الهند من عجز في الميزان التجاري يقدر بنحو ٦٫٨ مليارات دولار، فبينما تعتبر المواد الخام هي صلب الصادرات الهندية، فإنها تستورد بشكل أساسي السلع الصينية المصنعة .
تصاعد الطلب على الطاقة
تعتبر الصين والهند أسرع الأسواق المستهلكة للطاقة نموا على مستوى العالم، حيث تأتي الصين في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في استهلاك النفط، وهو أمر قد يضاعف احتياجاتها من النفط الأجنبي بحلول عام .٢٠١٠ ومن المتوقع أن ينمو الاستهلاك الهندي من النفط بمعدل يتراوح بين ٪٣٫٦ و٣ ٪٤٫من الاستهلاك العالمي سنويا، وقد تتضاعف هذه النسبة بحلول ٢٠٣٠، ما سيجعل الهند ثالث أكبر دولة مستهلكة للنفط قبل عام .٢٠٢٥ وقد أدى تصاعد معدلات الاستهلاك إلى زيادة البلدين من حجم استثماراتهما في حقول النفط الأجنبية، واعتمادهما على مصادر الطاقة الأجنبية، ومن ثم ازدادت حساسيتهما الشديدة تجاه التغيرات التي تشهدها الأسواق العالمية للطاقة .
وربما يكون سببا في سعي البلدين إلى تحقيق مزيد من التعاون في مجالات الطاقة، إذ حققا شراكة بالفعل في اثنين أو ثلاثة مشاريع دولية للطاقة، من ضمنها الاستثمارات في كولومبيا وسوريا .
وعلى مستوى كل دولة، حققت الصين نجاحات أكثر من الهند في هذا المجال، مستخدمة علاقاتها السياسية والاقتصادية، وأبرز مثال على ذلك التوجه الصيني صوب إفريقيا .
مصالح متضاربة في المحيط الهندي
ولأن الدولتين تسعيان لاستيراد المزيد من الطاقة، وتطوير تجارة كل منهما، فإن حماية مصالحهما في المحيط الهندي أصبحت أمرا مهما، فأغلبية النفط الذي تستورده الهند – ما يقارب – ٪٧٠ يأتي من الخليج العربي عبر المحيط الهندي، ومن المتوقع أن تصل الصين إلى هذا المعدل مع حلول عام .٢٠١٥ كما أن المحيط الهندي يعتبر منطقة رئيسية في مجالات التعاون الهندي الأمريكي، حيث يجري الطرفان تدريبات عسكرية دورية مشتركة، فضلا عن أن الهند لديها أقوى أسطول في القارة الآسيوية يتمركز في المحيط الهندي .
ورغم أن مصالح الصين الأمنية تتركز في غرب المحيط الهادي، فإن الهند معنية بشكل أساسي بالترتيبات والتسهيلات التي تحاول الصين الحصول عليها في المحيط الهندي، مثل الاستثمارات الصينية في الميناء الجديد – ميناء جوادر -Gwadar على الشواطئ الباكستانية في الغرب، إلى جزر الكوكوس Cocos في بورما في الشرق .
وبدورها تراقب الصين الإشارات التي توحي بتمدد القوة العسكرية الهندية، وتنامي العلاقات الهندية مع الولايات المتحدة، والتي قد تهدد الشاحنات والسفن الصينية عبر المحيط الهندي .
معضلة الحدود
تظل قضية الحدود إحدى مواطن النزاع بين العملاقين الهندي والصيني، وترجع النزاعات الحدودية بين الدولتين إلى خمسة عقود خلت، وأدى ذلك لنشوب حرب عام ١٩٦٢ بين البلدين، انتصرت فيها الصين .
بيد أن الجانبين خففا من حدة القلق حول مسألة الحدود، فقد عبرت الهند عن أن التبت جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية، وفي المقابل اعترفت الصين، في عام ٢٠٠٣، بكون سيكيم Sikkim جزء من الهند .
ورغم المحادثات رفيعة المستوى بين الجانبين بخصوص الحدود، فما زال التوصل إلى تسوية شاملة أمرًا مستبعدًا، فالصين تعلن من حين لآخر أن إقليم آروناتشال براديش \" شمالي شرق الهند \" الهندي جزء من أراضيها، والذي يعتبر جزءا من الحدود المتنازع عليها بين الجانبين، ويقطنه عدد كبير من السكان .
إلا أنه، ورغم هذه الخلافات، فإن قضية الحدود هادئة بشكل عام، وليس من المتوقع أن تتسبب في حدوث نزاعات بين البلدين، حتى إن استمر كل طرف في رفض تقديم التضحيات السياسية في أي عملية تسوية بشأن هذه القضية .
العلاقات العسكرية
شهد الجانب العسكري تعاونا بين الجانبين، ففي عام ٢٠٠٧ اشترك البلدان في تدريبات عسكرية، ضمت ١٠٠ جندي من الطرفين، واستمرت لمدة ٩ أيام في جنوب غرب الصين، ومن المقرر أن تعقد تدريبات أخرى مشتركة في الهند في عام ٢٠٠٨، ويقيم الطرفان محادثات عسكرية سنوية .
وطبقا لتقديرات معهد أبحاث السلام الدولي في استوكهولم \" سيبري \" ، تعتبر كل من الهند والصين من بين أكثر دول العالم استيرادا للأسلحة التقليدية، وقدر المعهد حجم الإنفاق العسكري الصيني في عام ٢٠٠٧ بنحو ٥٨ مليار دولار، بزيادة قدرها ٪١٢ عن السنة السابقة \" ٥١ مليار دولار \" ، بينما كان الإنفاق العسكري الهندي أقل من نظيره الصيني، حيث احتلت الهند المرتبة العاشرة في العالم، بإنفاقها نحو ٢٤ مليار دولار كنفقات على الدفاع .
وقد زادت الصين من استثماراتها في التكنولوجيا المتقدمة مثل : الصواريخ المضادة للأقمار الصناعية، وأسلحة الفضاء الأخرى، وفي المقابل تركزت مشتريات الهند من المعدات المتطورة بشكل أساسي على القوات الجوية، والأسطول البحري .
التنافس الإقليمي
ولا ينفي وجود بعض أوجه التعاون بين البلدين حقيقة وجود أهداف ومصالح متعارضة في شأن القضايا الإقليمية، فالهند لا تريد لقوة واحدة أن تسيطر على آسيا، كما تسعى إلى تعزيز حضورها ودورها في القارة الآسيوية .
وعلى الجانب الآخر تريد الصين أن ترى نفسها \" قائدا بلا منازع \" في آسيا، وتفضل أن تتعامل مع آسيا كمناطق إقليمية ثانوية مثل جنوب آسيا، وجنوب شرق آسيا، وشمالها، وشمال شرق آسيا، وتلعب هي دور اللاعب المركزي بين هذه المناطق، مقابل إبقاء
الدور المحوري للهند فقط في جنوب آسيا .
هذه الأهداف والطموحات والمفاهيم المتعارضة انعكست في صورة عدم توافق بين أهداف الصين والهند في المنظمات الإقليمية المختلفة، حيث اكتسبت الصين صفة مراقب في رابطة دول جنوب آسيا للتعاون الإقليمي SAARC ، وتعتبر الهند شريكا للحوار في رابطة دول جنوب شرق آسيا \" الآسيان \" ASEAN ، وعضو منتدى الآسيان الإقليمي ARF ، وعضو قمة شرق آسيا رغم جهود الصين لمنع انضمامها، كما تحظى بصفة مراقب في منظمة شنغهاي للتعاون .
المشكلة الباكستانية
طورت الصين علاقاتها مع باكستان منذ نحو نصف قرن، وحتى بداية التسعينيات من القرن الماضي بدافع أساسي هو موازنة القوة الهندية، ورأت الهند في إمداد الصين لباكستان بصواريخ إم – ١١، وتكنولوجيات أخرى ترتبط بصناعة الصواريخ والتعاون في المجال النووي تهديدا إستراتيجيا لأمنها القومي .
لكن اتخذت الصين منذ عقد ونصف مواقف أكثر حيادية تجاه قضايا الخلاف الهندي الباكستاني خاصة النزاع في كشمير، وبدأت في إقامة علاقات تعاون مع الهند بشكل أكثر جدية، وعارضت بشكل واضح التوغل الباكستاني عبر خط الحدود الفاصل بين الأجزاء الهندية والباكستانية من كشمير في عام ٢٠٠١، وفي مناسبات أخرى .
ولكن الاستثمارات الصينية المتنامية في ميناء جوادر والعلاقات القريبة مع المؤسسة العسكرية الباكستانية يطرحان تساؤلات جوهرية حول مدى تغير الاتجاه الإستراتيجي الصيني، أم أن الأمر لا يعدو كونه تكتيكا؟
الهند والصين في المشهد العالمي
تسعى الهند إلى الوصول للدور الذي تلعبه الصين في الفترة الراهنة، حيث تريد الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن، لكن لا تجد هذه الرغبة الهندية قبولا صينيا، وإن تجنبت الصين الاصطدام بالهند حول هذه المسألة .
وتعتبر الدولتان من الضيوف المنتظمين على اجتماعات دول الثماني الكبرى، وربما ترغبان في الحصول على عضوية كاملة، فضلا عن أن أهمية البلدين ستتزايد كلاعبين رئيسيين في المناقشات العالمية حول البيئة والصحة العالمية، وسيكون من الصعب على الولايات المتحدة أن تتعامل مع الدولتين بخصوص القضايا التجارية المتعددة الأطراف .وقد أبدت الولايات المتحدة اهتمامها بالصين، بوصفها ركيزة أساسية في الرؤية الأمريكية للحفاظ على الأمن والسلام في آسيا جنبا إلى جنب مع اليابان، كما أصبحت الهند خلال العقد والنصف الماضيين عنصرا رئيسيا في هذه الرؤية، وهو الأمر الذي يفسر تطور العلاقات الأمنية بين الجانبين، ومصادقة الولايات المتحدة على مساعدة الهند لتصبح قوة كبرى .
وبالتالي فإن علاقة هندية صينية منسجمة تلقى ترحيبا أمريكيا؛ لأنها ستحفظ السلام والنمو الاقتصادي في المنطقة، وهناك توافق كبير داخل الولايات المتحدة حول تفضيل خيار المشاركة بدلا من المواجهة مع كل المشاركين في حالة توازن القوى الآخذة في الظهور .
وتبدو الرؤية الأمريكية لمستقبل آسيا مناسبة للهند أكثر منها للصين، حيث تفترض دورا أمريكيا محوريا في آسيا لأجل غير مسمى .
وعلى الرغم ذلك فإن السياسة الأمريكية لا ترى في الهند موازنا للصين، ولكن لاعبا رئيسيا مع الولايات المتحدة وآخرين، في ظل شبكة معقدة من القوى الآسيوية والعلاقات التجارية، والمصالح الأمنية المتشابهة للولايات المتحدة والهند في آسيا سوف تكون أحد أسس الشراكة المستقبلية بين الولايات المتحدة والهند، وستحتاج السياسات الأمريكية في القارة الآسيوية إلى أن تعكس الفروق الدقيقة في العلاقات الصينية / الهندية، وكيفية توظيفها في خدمة الأهداف الأمريكية في المنطقة .
مدير برنامج دراسات جنوب آسيا بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية
٭ موجز لتقرير نشر على موقع مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *