المثقف وإيصال الحقيقة

Avatar

[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]صائب خليل[/COLOR][/ALIGN]

مطلوب من المثقف أن يحمي شعبه من الإعلام المضلل، لكن المطلوب منه قبل ذلك ان يحمي نفسه. التعليمات حول الطوارئ لركاب الطائرات تقتضي أن تلبس كمامة الأوكسجين بنفسك قبل أن تحاول مساعدة طفلك على ارتدائها! على المثقف أن يدرك بأنه نفسه مستهدف أيضاً من التشويه الإعلامي للحقيقة، وأن يكون له التواضع اللازم لذلك الحذر، والأمانة الأدبية المطلوبة لاكتشاف التضليل عندما يناسب ذلك التضليل عواطفنا وأهدافنا، فيفقدنا مصداقيتنا. ليس هذا سهلاً، وضحايا هذا التشويه من المثقفين متناثرة كشعب تعرض لمجزرة إعلامية في العراق. وحتى الأحزاب السياسية العريقة لا تنجو أحياناً من السقوط في فخ إعلامي، وتكوين صورة وهمية عن الواقع لا تحس بها إلا بعد فوات الأوان على الكثير من المواقف الخاطئة القرار.
بعد أيصال الحقيقة تواجه المثقف انتزاع الإعتراف بها، وهذا هو الخندق الثاني الذي تتحصن به الأكاذيب ومروجوها. فالحقائق ليست مجرد معلومات حيادية. إنها تعني مصالحاً وتثير مشاعراً فتفرح هذا وتحزن ثان وتخيف ثالث وتحرج رابع وتشعر خامساً بالإنتصار وسادساً بالهزيمة. إن الحقائق التي تجد الصعوبة القصوى في الوصول إلى المتلقي، ليست تلك الحقائق المعقدة صعبة الفهم، أو تلك التي لم تشرح جيداً، بل تلك التي تثير انزعاجا وإحراجاً أو خوفاً لدى ذلك المتلقي. فهو ليس حاسبة نضع فيها الأرقام لتحسب النتيجة، وإنما قبل كل شيء، كيان نفسي يستند إلى مفاهيم معينة وتصورات وقناعات شكل منها صورة العالم وصورة علاقته معه، وإلى تلك القناعات يستند أمله في الوصول إلى آماله في الرقي أو في النجاة على الأقل. إن من يأتي بحقيقة مزعجة لمتلقيها فإنما يطلب منه تحمل ألم إضافي، وقلق إضافي وهم إضافي. فإن قالت حقيقة ما، أن الدولة \”الصديقة\” التي نعقد عليها الآمال لتساعدنا في القضاء على من يتربص الموت بنا ويرهبنا، تقف في الجانب المقابل ضدنا وضد آمالنا، أو أن السياسي الذي وضعنا أملنا فيه، تبين أنه كذاب كبير أو فاسد أو متآمر، فأن هذا سيسبب لنا كارثة نفسية نجد أنفسنا نعمل على على تجنبها بكل ما نستطيع. يمكن ملاحظة هذه الظاهرة أحياناً لشخص يفقد عزيزاً عليه، فيرفض الإعتراف بالواقع وقد يبقى لفترة غير مصدق لتلك الحقيقة القاسية. وخير طريقة لذلك هي أن نبحث في تلك الحقيقة عن نقطة ضعف، أو نخترع لها نقطة ضعف لتنفنيدها وإزاحتها من أمامنا. وإن لم ننجح في إيجاد خلل في الحقيقة أو رفض الإعتراف بها، فأن جهازنا النفسي سيتكفل بذلك من خلال عملية \”نسيان\” سريعة على غير العادة. فمادام ولذلك لا مفر من بعض مشاعر الحقد على من يصر على تذكيرنا بها، فهو من وجهة نظر نفسيتنا، يرتكب عملاً عدوانياً يسبب لنا الألم!الخوف لا يدفع الخائف فقط إلى الإبتعاد عن تبني الفكرة التي تسبب له الخوف فقط، بل ينتقل ذلك حتى إلى نظرته إلى صحة الفكرة! فمن الأسهل نفسياً أن تقتنع بأنك رفضت الفكرة لأنها \”خطأ\” من أن تقول أنك رفضتها أو تخليت عنها بسبب الخوف.
على المثقف هنا أن ينتبه لأثر الحقيقة على نفسيته أولاً واستعداده لتحملها، وأن ينتبه لأثرها على متلقيه ويتوقع ويتفهم ردود الفعل عليها، فليست كل تلك الردود هي على الحقيقة أو عليه شخصياً، وإنما على الألم الذي تتسبب به تلك الحقيقة التي يأتي بها، كرد فعل نفسي لحماية الذات من الأذى.

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *