العدالة الاجتماعية من شعار مبهم إلى مفهوم مدقق

Avatar

[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]إبراهيم العيسوي[/COLOR][/ALIGN]

الحاصل الآن أن العدالة الاجتماعية أقرب إلى الشعار المبهم منها إلى المفهوم الواضح. ولذا تشتد الحاجة إلى إلقاء الضوء على معنى العدالة الاجتماعية، وعلى العلاقة بينها وبين عدد من المطالب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأخرى. وإسهاما مني في الوفاء بهذه الحاجة، سوف أبدأ بتقديم مفهوم موسع ومركب للعدالة الاجتماعية، يمكن أن تشتق منه مفاهيم فرعية متنوعة ومجموعات ضيقة أو واسعة من السياسات أو الإجراءات العملية.
العدالة الاجتماعية هي تلك الحالة التي ينتفي فيها الظلم والاستغلال والقهر والحرمان من الثروة أو السلطة أو من كليهما، والتي يغيب فيها الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي وتنعدم فيها الفروق غير المقبولة اجتماعيا بين الأفراد والجماعات والأقاليم داخل الدولة، والتي يتمتع فيها الجميع بحقوق اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئية متساوية وحريات متكافئة ولا تجور فيها الأجيال الحاضرة على حقوق الأجيال المقبلة، والتي يعم فيها الشعور بالإنصاف والتكافل والتضامن والمشاركة الاجتماعية، والتي يتاح فيها لأفراد المجتمع فرص متكافئة لتنمية قدراتهم وملكاتهم ولإطلاق طاقاتهم من مكامنها ولحسن توظيف هذه القدرات والطاقات بما يوفر لهؤلاء الأفراد فرص الحراك الاجتماعي الصاعد، وبما يساعد المجتمع على النماء والتقدم المستدام، وهي أيضا الحالة التي لا يتعرض فيها المجتمع للاستغلال الاقتصادي وغيره من آثار التبعية لمجتمع أو مجتمعات أخرى، ويتمتع بالاستقلال والسيطرة الوطنية على القرارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ويحسن بنا التوقف عند عدد من عناصر هذا التعريف الواسع والمركب للعدالة الاجتماعية لإيضاح معانيها ومراميها وبيان بعض العلاقات المهمة التي تربط بينها. ومن أول ما يجب التوقف عنده العدالة الاجتماعية والمساواة والعلاقة بينهما. فكثيرا ما ينظر إلى العدالة الاجتماعية كمرادف للمساواة. ولكن يجب الانتباه إلى أن العدالة الاجتماعية لا تعني المساواة الكاملة أو المطلقة، أي أنها لا تعني مثلا التساوي الحسابي في أنصبة أفراد المجتمع من الدخل أو الثروة. فمن الوارد أن تكون هناك فروق في هذه الأنصبة، حيث تتواكب هذه الفروق مع الفروق الفردية بين الناس في أمور كثيرة كالفروق في الجهد المبذول في الأعمال المختلفة وفيما تتطلبه من مهارة أو تأهيل علمي أو خبرة، وكذلك الفروق المرتبطة بالعمر (حيث تقل الاحتياجات الغذائية للطفل عن البالغ) أو المرتبطة بالحالة الصحية (فالمريض قد يحتاج موارد أكثر من السليم للصرف على علاجه).
والأمر المهم هو أن تكون اللامساواة أي الفروق بين الناس في الدخل أو الثروة أو في غيرهما مقبولة اجتماعيا، بمعنى أنها تتحدد وفق معايير بعيدة عن الاستغلال والظلم ومتوافق عليها اجتماعيا. وحسب نظرية رولز الشهيرة عن العدالة، فإن اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية يجب أن تنظم على نحو يجعلها تقدم للأفراد الأقل حظا في المجتمع أكبر نفع ممكن من جهة، ويجعلها تتيح في الوقت نفسه إمكانية الالتحاق بالوظائف والمواقع المختلفة أمام جميع الأفراد في إطار من المساواة المنصفة في الفرص من جهة أخرى. وعموما فإن العدالة الاجتماعية تعني في الأساس المساواة في الحقوق والواجبات، والمساواة أو التكافؤ في الفرص.
إن المساواة في الحقوق تشير إلى أن فكرة العدالة الاجتماعية لا تنفصل عن فكرة حقوق الإنسان. فالعدالة الاجتماعية استحقاق أساسي للإنسان نابع من جدارته كإنسان بالتمتع بمجموعة من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وذلك على ما هو مقرر في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي طائفة واسعة من العهود والمواثيق والاتفاقات الدولية كالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والاتفاقات الخاصة بحقوق الطفل والنساء والأقليات. كما أن فكرة العدالة الاجتماعية لا تنفصل عن مبدأ الوفاء بالحاجات الإنسانية للبشر. ذلك أن إنسانية الإنسان لا تكتمل، وكرامته لا تتحقق، ما لم يمكن من إشباع حاجاته الإنسانية. ولا يخفى أن هذا الربط بين العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وإشباع حاجاته يفرض على الدولة واجبات اقتصادية واجتماعية مهمة، حيث لا تقدر قوى السوق وحدها على الوفاء بمتطلبات المجتمع العادل.
وإذا انتقلنا من المساواة في الحقوق إلى المساواة في الواجبات فيجدر الانتباه إلى أن المساواة في الواجبات ليست مطلقة. بل إنها مربوطة بمبدأ أساسي وهو مبدأ القدرة، وذلك انطلاقا من القاعدة الأصولية التي تقرر أن «القدرة مناط التكليف». فأداء الضرائب مثلا واجب على المواطنين، ولكنه مشروط بقدرة المواطن على دفع الضرائب.
وعندما نربط بين العدالة والمساواة في فرص الحصول على التعليم والرعاية الصحية والعمل اللائق والحراك الاجتماعي الصاعد والمشاركة السياسية وما إلى ذلك، فمن الضروري أن تقترن المساواة في الفرص بثلاثة شروط. أولها غياب التمييز بين المواطنين وإزالة كل ما يؤدي إليه من عوامل، وغياب ما يترتب على التمييز من نتائج سلبية كالتهميش والإقصاء الاجتماعي والحرمان من بعض الحقوق. وثانيها توفير الفرص، حيث لا معنى للحديث مثلا عن التكافؤ في فرص العمل إذا كانت البطالة شائعة ومواطن الشغل غائبة. وهو ما يرتب التزاما على الدولة بوضع السياسات واتخاذ الإجراءات الكفيلة بتوفير فرص العمل. وثالثها تمكين الأفراد من الاستفادة من الفرص ومن التنافس على قدم المساواة من أجل نولها. فاغتنام الفرص قد يرتبط بتوافر قدرات معينة مثل مستوى تعليمي معين أو امتلاك أرض أو رأسمال. والمنافسة على الفرص سوف تفتقر إلى التكافؤ عندما تتسع الفروق في القدرات بين المتنافسين. وهاهنا تظهر الحاجة إلى دور الدولة في إتاحة التعليم والتدريب وإعادة التدريب والرعاية الصحية وغيرها من عوامل بناء القدرات وتنميتها.
لاحظ أن العدالة قد لا تتحقق حتى إذا تساوت الفرص وتحققت الشروط الثلاثة السابق ذكرها. فقد ينتج الاختلاف في قدرات الأفراد وفي حظوظ أسرهم من الفقر أو الغنى ومن تدني المكانة الاجتماعية أو علوها، فروقا واسعة في العوائد أو النواتج تتجاوز ما يمكن اعتبارها فروقا مقبولة اجتماعيا. ومن هنا تظهر ضرورة تدخل الدولة بسياسات إعادة التوزيع لتقريب الفروق في الدخل والثروة بين الطبقات حتى لا تؤدي هذه الفروق للإطاحة بمبدأ تكافؤ الفرص ذاته. ذلك أن المساواة في الفرص شرط ضروري للعدالة الاجتماعية، ولكنه شرط غير كاف لتحقيقها، ويلزم أن يضاف إليه شرط السعي المستمر لتضييق الفوارق في توزيع الدخول والثروات ومن ثم الفوارق في النفوذ السياسي.

التصنيف:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *