معاناة مبتعث
[ALIGN=LEFT][COLOR=blue] فهد بن محمد علي الغزاوي[/COLOR][/ALIGN]
يقول المثل: \”الغريب أعمى ولو كان بصيرا\”، هذا المثل ينطبق على الطالب المبتعث في المجتمعات الأوروبية والأمريكية، حيث لا يعرف قريباً أو بعيداً أو حتى لغةً للتعامل، ولا عادات تلك المجتمعات غير المألوفة.
كان صديقي الحميم يعيش في ولاية أريزونا وكُنت أعيش في ولاية أوكلاهوما، هذا الصديق حديث عهد بهذه المدينة كان يدرسُ في معهد اللغة الإنجليزية التابع لجامعة توسان أريزونا، يقول لي هذا الصديق: كنت أوزع ابتسامات عريضة أينما حللتُ ونزلت دون أن أعي لما يقوله البعض أو يوجهونني به أحياناً. وكنتُ أتحرج في السؤال عن كل ما أريد شراءه.. هذا جزء بسيط من معاناة المبتعث حديثاً في الغربة.
كُنت ألتقي بزملائي العرب الأقدمُ مني في الجامعة والأكثرُ خبرة بعادات وتقاليد ذلك المجتمع الأمريكي لكي أستمع منهم وأبادلهم الأسئلة، ثم يردف صديقي قائلاً: كنتُ كثيراً ما أضيق ذرعاً بكل ما هو حولي لأني لا أجد من يبادلني مشاعري ويشاركني همومي وغربتي ويقتسم معي قسوة الدراسة ووحدة الغربة، كانت المكالمات الهاتفية في ذلك الحين قبل أكثر من ثلاثين عاماً مُكلفة جداً ومرهقة لميزانية الطالب المبتعث، الاتصال بالأهل كان كل شهرٍ مرة، أسعد بسماع صوت والدتي ووالدي الذين هم بالتالي لا يستطيعون الاتصال بي نظراً لغلاء المكالمات.. وكان هذا ما جعلني أحرص على إنهاء دراستي والاهتمام بوقتي.
كنتُ أذهب أسبوعياً لغرفة غسيل الملابس بذلك المجمع السكني الذي أسكن فيه وهو يصادفُ يوم الأحد من كل أسبوع، فهذا يوم عطلتهم الرسمي بخلاف ما هو موجود في بلاد المسلمين.
التقيتُ بعدد من السكان بهذه الصالة المرتبة الشاسعة المتوفر بها مكائن المشروبات الغازية وبعض طاولات التنس. سعدتُ بلقاء بعض الشباب والشيوخ ذكوراً وإناثاً وتبادلتُ معهم التعارف بشيء موجز وعلى عجالة، تكررت تلك اللقاءات وتجددت على المسبح، وهذا ما أتاح لي التعرف على نماذج جديدة من المجتمع الأمريكي وساعدني على التخاطب معهم والتعرف على المفردات الإنجليزية الحديثة.
وفي إحدى أيام إجازتي الأسبوعية سمعتُ هناك من يطرق بابي بشيءٍ من الاستحياء والإحراج فإذا بها إحدى جاراتي في السكن طالبةً مني الإذن بالدخول والجلوس معي.كانت جارتي تصغرني بثلاث سنوات وكان لديها من سعة الصدر ما يمكنها من الاستماع لي في حين أن لغتي كانت ركيكة وأسلوبي مُرتجل، ولم أراع أحياناً صيغة المخاطب أو الجمع، كانت تستمع لي وتعدل أحياناً كثيرة بين الماضي والمضارع والمستقبل. فرحتُ بها وكانت في غاية الجمال والأريحية والحضور فلديها كاريزمة عالية لاستيعاب من حولها وتعليم كبار السن من أمثالي، وهذه فرصة ثمينة عرفت قيمتها فيما بعد.
توطدت علاقتي بجارتي التي كانت تدرس في إحدى المعاهد التجارية لتعمل في بعض الإجازات في السوبرماركت \”ككاشير\” أعجبتُ بها حقيقةً لأن لديها سعة اطلاع وتعيش مع والدتها المتقاعدة في شقة واحدة. أعجبها ما كنت أقدمه من طعام وخاصةً \”الكبسة السعودية\” هذه الفتاة مشكورة قدمت لي الكثير من المساعدات الثقافية والفكرية دون أي مقابل. تصحبني أحياناً للمكتبة. وأحياناً أخرى تهديني بعض الكتب التي تخدم تخصصي الجامعي. حاولتُ جاهداً أن أدخل إلى قرارة نفسها وأكشف عن مكنونها فوجدت صدوداً مؤكدة لي دائماً \”أنت صديق فقط\” ولست (ماي بوي فرند). هذه الفتاة لديها عقلانية كبيرة قالت لي بالحرف الواحد \”أنا لا أحب أن ارتبط بأي إنسان كان في هذه المرحلة من عمري\” وتقول لي أيضاً: \”إن صفاتك لم تكن هي صفات فتى أحلامي\”. لم تراع مشاعري، ولم تتحرج في قولها هذا مراراً وتكراراً. كنتُ أتعجب من هذا القول وأقدر رغباتها وأكبر تعاملها وأصون عفتها، لم تأخذني نعرة الرجولة عندما رفضت ارتباطها بي، لكنها تركت في نفسي صدمة كبيرة لعدم قبولها شخصي. وهذا ما حفزني وقوىَ شكيمتي لمواصلة دراستي والاستفادة من خبراتها.
ظل زملائي العرب وهم يسبقونني في المراحل الدراسية واللغة يضيعون أوقاتهم في الملاهي والبارات والتجمعات والسهرات ولعب البالوت مع بعضهم البعض. كنت أسبقهم لغوياً وعلمياً وفكرياً في تعلمي لقيم ومبادئ ذلك المجتمع الراقي. أنهيت دراستي للغة في وقت قياسي وحصلت على أعلى الدرجات في اختبار (التوفل) التحقت بأرقى الجامعات في أمريكا. نلتُ شهادات التقدير من الملحقية الثقافية في أمريكا. فالشاهد من هذه القصة أن الدراسة تحتاج من المبتعث إلى تصميم وإرادة وتقديرٍ للمسؤولية والغربة عن الأهل والوطن. يقول المثل العامي: \”إللّي تغلبه إلعبه\” فالطالب المبتعث يعيش غربته في تحدٍ دائم فهو إما أن يكون أو لا يكون. أقول هذا الكلام بعد ثلاثين عاماً من مرحلة الابتعاث والتغرُّب. إن على المبتعث أن يحرر فكره من الأهواء ويشغل عقله بالتحدي الكبير في التحصيل وقضاء معظم وقته في المكتبات، والاعتماد على الله في دراسته والمحافظة على قيمه وأخلاقه.
يقول الشاعر:
اصبر على مر الجفا من معلمٍ فإن رسوم العلم تحت بنانه
ويقول آخـر:
وما أبقت لك الأيــام عذراً وبالأيـام يتعـظ اللبيـب
التصنيف: