أيها المحسنون : شكراً لدعمكم صناعة الاستجداء
[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]د . هشام بن عبد السلام بن محمد جمعة[/COLOR][/ALIGN]
أسأل الله أن يجعله في موازين المحسنين المتصدقين بإذنه تعالى، وأن يجعله نورا يمشي بين أيديهم يوم القيامة، ولكن انظروا كيف استُغلت النوايا الحسنة وانعكست سلبا علينا، فقد امتلأت مدننا بالمتسولين في كل زاوية وفي أكبر الشوارع حتى بات الأمر عادياً تماماً بل ومقبولاً جدا حتى من قبل الزوار!!. وطبعا يستحيل ألاَّ ترى إدارة مكافحة التسول ما نراه نحن يوميا عند كل إشارة مرور وبجانب كل حاوية قمامة أكرمكم الله. حتى شركات النظافة لا تعلم ولا ترى ولم يخبرهم أحد على الاطلاق أن جميع عمالها قد امتهنوا الاستجداء وتركوا ما جاءوا إلى بلادنا من أجله، لقد ذاب الاسفلت عند إشارات التقاطعات الرئيسية من كثرة ما تكنس ذهابا وإيابا بطول خمس أو ست سيارات طوال نوبات عمال هذه الشركات، وحتى خارج الدوام. يا ترى من يضحك على من، ولماذا يستهان بذكائنا منذ سنين، لم أجد تفسيرا علميا اجتماعيا اقتصاديا عن هذا السؤال: لماذا لم يوضع حد لهذه المهزلة على مدى السبع السنوات الماضية، وهي تقريبا تاريخ ميلاد هذه الظاهرة العجيبة جدا والتي تتميز بها بلادنا الآن على كل بلاد العالمين.
أما عن الظاهرة الأعجب فحدث ولا حرج، تعلمون أخواني وأخواتي من سكان العروس وزوارها أنني أعني ظاهرة عربات الأطفال المملوءة بكراتين الورق المقوى وأكياس علب المشروبات الغازية، والتي تتحرك بكل حرية وطبيعية بالغة حتى في شوارع المواكب الرسمية. وقد قمت بعمل إحصائية بسيطة جدا الشهر الماضي وخلال يوم واحد فقط فوجدت أنني لو تحركت من ميدان البيعة وحتى ميدان الكرة الأرضية شمالا فسوف أقابل 21 عامل نظافة متسولاً، و16 عربة أطفال محمَّلة بغرائب المخلفات، و9 أطفال أفغانيين من بائعي اللاشيء، و19 متسولاً انفرادياً سواء بعاهة مصطنعة أو بعباءة يعلم الله من تخفي تحتها. ولم يكن هذا اليوم يوم جمعة مثلا، إذاً لاختلفت هذه الأرقام واختلف توزيعها على الأحياء لارتباطها بالمساجد أساسا. وأكاد أجزم أن هذه الأرقام سوف تختلف أيضا تبعا لساعات خروج الموظفين أو المدارس وأيام المناسبات والأعياد الرسمية. وقد رأيت بأم عيني متسولين على كراسي متحركة يمشون إلى سياراتهم ويضعون كراسيهم في الصندوق الخلفي وبكل بساطة أمام أعين المارة كمن كان يؤدي عملاً أو يتبضع ثم فرغ من عمله وحان وقت عودته إلى بيته!!! يا سبحان الله في طبعِك يا جدة، غير في كل شيء.
حاشا لله أن انتقد فقيرا أو محتاجا، واستغفر الله من كل ذنب عظيم، فالمقصودون هنا هم من يستغلون طيبة هذا الشعب ومروءته فيملؤون الأرض خداعا ونصبا وعددا وسوء منظر . هم من قال عنهم سيد الخلق صلى الله عليه وسلم انه يعطيهم قطعة من جهنم لأنهم يسألون لمجرد الاستزادة بدون جهد وبدون وجه حق.. هؤلاء هم من يضعون أيديهم في جيوبكم بدعاوى باطلة مبنية على سبق إصرار وترصد وتخطيط لئيم.. هؤلاء هم من أتوا لنا من أقاصي الأرض في جماعات منظمة تدفع ثمنا معلوما لشراء المواقع التي يقفون فيها فيبيعون ويشترون فينا.. هؤلاء هم الذين درسوا سيكولوجية المواطن ولغته ولكناته المختلفة وأصبحوا يعرفون افضل الأساليب النفسية للنفاذ إلى جيبك، بل وأصبحوا قادرين على معرفة \”الزبون\” الذي سيدفع من مجرد النظر إليه، وراقب بنفسك كيف يفرقون بيننا ومن يستهدفون من \”وسط الزحمة\”!! وجرب أن تعطي سائلا منهم أمام الآخرين وستجد نفسك في مركز مظاهرة آدمية هدفها اخراج آخر هللة من جيبك.
لا، ليس مقبولا ابدا ان تبدو مدينتي بهذه الصورة، وليس مقبولا اطلاقا ان يستغفلنا هؤلاء ونرضى، أو ان ندعم نشاطهم تحت اي مسمى خيري، فلو اننا توخينا الحرص عند إخراج صدقاتنا لذهبت لمن يحتاجونها حقا، أو ليس الأقربون – خاصة المتعففين عن السؤال – اولى بالمعروف؟ لو اننا توقفنا عن تشجيع هؤلاء لوجدتهم في تناقص مستمر، ولو ان هؤلاء ذاقوا شدة ادارة مكافحة التسول عليهم لاختفوا عن الانظار، ولو ان شركات النظافة عاقبت المتهاونين منهم – وهم الاغلبية – لتفرغ كل منهم لعمله لعلها تنظف هذه الشوارع، ولو ان ادارة الجوازات زارت الاسواق التجارية لاكتشفت اكبر مروجي المناشف الصغيرة وعلب اللبان من صغار الافغان الذين يلتصقون بقدرة قادر بكل من يخرج من السوق ويلاحقونه الى داخل مقعد سيارته وهم يتمتمون عبارات ركيكة محفوظة هدفها استدرار عطفك بشكل مدروس من قبل مشغليهم.. نعم اتحدى من يقول ان هذه ليست عصابات منظمة تتابع عمل افرادها وتطلب منهم مبلغاً مستهدفاً يومياً وتقوم بتدريبهم وتوزيعهم بعناية فائقة، بدليل ان الواحد من هؤلاء الاطفال اصبح يحمل منشفة وقطعة لبان واحدة فقط لعلمهم اننا اصبحنا نعطي دون ان نشتري منهم شيئا وبالتالي لم يعد هناك داعٍ حتى للتظاهر بالبيع.. وماذا عن الذين يأتونك في سيارات فارهة ويخبروك انهم قد سرقوا ويحتاجون الى قيمة البنزين؟ وكم مرة حن قلبك لمن يخبرك بأنه أتى للعمرة وضاعت محفظته ويحتاج الى ثمن تذكرة ليعود الى دياره؟ واخبرني صيدلي ان المتسولين الذين يطلبون منك ان تشتري لهم الدواء ليطمئن قلبك لصدقهم هم في الواقع يعيدونه الى الصيدلية ويسترجعون جزءا من ثمنه مشاركة مع الصدليات المجاورة لمنطقة عملهم والتي اصبحت شريكة في اللعبة هي الاخرى!! وكنت في الحرم المكي الشريف عندما تعرضت ابنتي المندهشة جدا لخمس محاولات متكررة من وجوه مختلفة تجلس بجانبنا عند المسعى وتسألنا من اين نحن ثم يخبرنا ذو الوجه الحزين عن قصته عندما أتى للحج مع امه العجوز ثم تعرض للسرقة ويحتاج لأن يعول هذه المسكينة ويشتري لها الدواء قبل ان تموت بمرضها!! ان لم تكن هذه التي تستخدم نفس القصة والاسلوب عصابة منظمة، فأنا بالتأكيد لست كاتب هذه السطور. وبالمناسبة كلهم على اتم الاستعداد لان يقسم لك ايمانا مغلظة انه صادق.. نعم يا عزيزي لقد أمنوا العقوبة فأساءوا الادب، وضمنوا سهولة التكسب فتمادوا في استغفالنا.. ويبدو اننا اول من يلام.. فقد شجعنا تأسيس صناعة التسول في بلادنا.. ونستاهل.
التصنيف: