الجريمة المستمرة
[ALIGN=LEFT][COLOR=blue]أمل الشرقي[/COLOR][/ALIGN]
قد تكون في نظر الامريكيين غلطة سياسية. وقد تكون في نظر الشرفاء في العالم جريمة بحق شعب آمن. لكن الحرب الامريكية كانت بالنسبة للعراق والعراقيين كارثة تاريخية كبرى فاقت كارثة الغزو المغولي في أبعادها وآثارها.
لن أكرر هنا الارقام المليونية عن عدد القتلى والأرامل والايتام ومليارات الأموال التي سرقت وأهدرت فربما مل القارئ ذلك التكرار، والقارئ بطبعه ملول إزاء الأخبار الكئيبة.
لكنني سأتحدث عن ضياع الفرصة التاريخية التي فقدها العراقيون إلى الأبد ومن شأنها أن تبقيهم خارج ساحات الفاعلية لأمد لا يمكن التكهن به. فالعراق الذي كان أول دولة شرق أوسطية تقضي على الأمية وتعمم التعليم المجاني لكل المراحل، والعراق الذي كان يمتلك أفضل منظومة للتأمين الصحي في المنطقة، والعراق الذي كان أول بلد عربي تغطي كامل أراضيه شبكة الكهرباء، ويمد أنابيب تصدير النفط إلى البحار الشمالية والجنوبية، ويطبق الاصلاح الزراعي، ويضطلع بمهمة تحرير المرأة، أصبح بين عشية الغزو وضحاها قفراً خالياً من الحقوق، وغابة تُنتهك فيها القوانين، وظلاماً مخيفاً نسي فيه الناس كل مطلب سوى مطلب البقاء على قيد الحياة ولو في أتعس ظروف العوز والتهديد.
لا ترتقي الدول إلى المراتب الأعلى بالصدفة والنوايا الحسنة. ولا تتقدم الشعوب بضربات حظ وأحلام يقظة. إنما يُصنع التطور بجهود حثيثة وتضحيات كبرى وقيادة مخلصة وظروف إقليمية وعالمية مواتية.
وقد توفر للعراق الحديث منذ تأسيسه في عشرينيات القرن الماضي هذا القسط أو ذاك من تلك الظروف. وبخلاف ما يعتقده الكثيرون، فإن النفط لم يكن المصدر الوحيد الذي صنع نهضة العراق. فقد كان هناك الرافدان وأربعة أنهار أخرى كبيرة، وكانت هناك أرض السواد والأيادي التي اعتادت أن تحول التراب ذهباً منذ عهد سومر وآشور. وكان هناك العقل الرافديني المبدع، والشخصية العراقية الجادة والدؤوبة. ومع كل هذه المؤهلات، استطاع النفط أن يشتري للعراق ما لم يستطع أن يشتريه لغيره من ريادة وفكر ورقي.
الحرب الأمريكية غير المنتهية منذ ست سنوات قضت على كل ذلك بالقصف والنهب والفتنة والتخريب. والعراق اليوم الذي يقبع في أدنى قوائم الدول الفاشلة والفاسدة والخطرة، سيحتاج إلى عشرات السنين لإعادة ترميم ما خُرّب من بنيته وتكوينه. وحتى لو حصل العراق، بمعجزة، على المنظومة اللازمة من شروط التقدم، فإن فرصته في اللحاق بركب المتنافسين في سباق الزمن ستظل بعيدة إن لم نقل مستحيلة.
تلك هي أبعاد الجريمة التي ارتكبت منذ ست سنوات، وإنها لجريمة مستمرة التأثير والأثر مهما استجد من تغيير على السياسة الامريكية والداخلية.
العرب اليوم الأردنية
التصنيف: