طهران ــ وكالات
في ظل قمع السلطات الإيرانية للمتظاهرين السلميين، يرفض الكثيرون من مختلف أطياف المجتمع المحلي الروايات الرسمية للحكومة ومزاعمها حول انتحار متظاهرين محتجزين.
رفضٌ يستند إلى التناقض الصارخ بين تلك المزاعم والحقائق، ويؤشر إلى أن تداعيات الاضطرابات ليست سوى مجرد بداية تنذر بأن الأمور تزداد تعقيدا بالنسبة لنظام الملالي.
بدورها نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا عبر موقعها الإلكتروني، ذكرت فيه أن مسؤولي الحكومة الإيرانية أعلنوا انتحار اثنين من الشبان المحتجزين، ومقتل آخر في اشتباكات مع قوات الأمن.
ولكن في جرأة غير معتادة، هاجم العديد من الإيرانيين، بينهم عدد من النواب، المزاعم الحكومية.
التقرير أشار إلى أن هؤلاء الشبان الثلاثة، من بين أكثر من 25 إيرانيا على الأقل، قُتلوا جميعا في موجة الاحتجاجات المناهضة للحكومة التي اجتاحت البلاد قبل بضعة أسابيع.
وأوضح أن القصص الشخصية للشبان الثلاثة التي ظهرت منذ ذلك الحين، أثارت موجة غضب واسعة ودعوات لمحاسبة المسؤولين في صفوف العديد من الإيرانيين ممن يرون تناقضات صارخة في الروايات الرسمية للوقائع.
واعتبرت الصحيفة أن هذه الضغوط ترمي لإجراء المزيد من التحقيقات، ومعاضدة الطلب البرلماني للتحقيق في الوفيات في السجون، ما يعني أن الاحتجاجات لم تكن سوى بداية غضب واحتقان وغليان لن يخمد فتيله أبدا.
التقرير نقل عن فرشد جورانبور، المحلل المقرب من حكومة الرئيس حسن روحاني، قوله إن “هذه الأنباء حول عمليات الانتحار المزعومة تجعل الناس غاضبين. إنهم يطالبون بإجابات”.
ورجحت الصحيفة أن هذا الغضب يشير إلى تعقيد جديد قوي يواجه المرشد الإيراني علي خامنئي، والذي استهدفته الاحتجاجات بشكل شخصي، لافتة إلى أن استعداد مكونات المجتمع العام الإيراني لرفض رواية السلطات القضائية العليا علنا، يعد أمرا غير اعتيادي في بلد يحكمه نظام دكتاتوري لا يعترف بالرأي الآخر، وربما يكون هذا السلوك محفوفا بالمخاطر وقد يستدعي الانتقام من هذا الجانب أو من ذاك.
فيما أعلنت السلطات القضائية الإيرانية في بيانها حول آخر المستجدات بشأن الاحتجاجات، مقتل 25 شخصا، واعتقال نحو 4 آلاف، بينما تم الإفراج عن المئات من المحتجين الموقوفين، بينهم 500 في طهران.
وبعد أن رفعت السلطات الإيرانية، السبت، الحظر المفروض على تطبيق الرسائل الهاتفية الشهير “تلجرام”، الذي يستخدمه أكثر من 40 مليون إيراني، سرعان ما غزت التطبيق شكوك مستخدميه بشأن الروايات القضائية المتعلقة بوفيات السجون.
وذكرت الصحيفة أن أحد القتلى ويدعى، فاهيد حيدري، بائع متجول في الشوارع، كان يحاول كسب عيشه في مدينة أراك، وسط إيران، وقد اعتقل ليلة رأس السنة خلال الاحتجاجات، وتصر السلطات القضائية على أنه اُحتجز لحيازة المخدرات، وهو ما نفاه محامي أسرته محمد نجفي.
وزعم عباس قاسمي، المدعي العام المحلي في المدينة، في تصريحات لوكالة أنباء “ميزان”، التابعة للهيئة القضائية، أن تسجيل فيديو أظهر أن حيدري طعن نفسه بسكين، دون نشر الفيديو أو توضيح كيف حصل حيدري على سكين في زنزانته.
وفي سجن “إيفين” بطهران، زعمت السلطات القضائية أن الطالب سينا جانباري (23 عاما)، الذي كان محتجزا مع متظاهرين آخرين، شنق نفسه في الحمام يوم 6 يناير الجاري.
فيما لجأ النظام الحاكم في إيران إلى تكنولوجيا صينية لاستخدامها في مزيد من التضييق والقمع وكبت الحريات ضد انتفاضة الإيرانيين التي انطلقت في 28 ديسمبر الماضي ولا تزال متواصلة.
المظالم الاقتصادية والفساد المنتشر الذي قاد لثورة الإيرانيين لم يمنع نظام الملالي من السعي لشراء منظومة مراقبة ورصد من الصين لاستخدامها في مراقبة الحسابات وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي داخل إيران، في ظل مظاهرات واسعة النطاق شملت غالبية المدن الإيرانية؛ احتجاجا على سياسات خامنئي وروحاني.
وأفادت مجلة “ذا إنترسبت” الأمريكية في تقرير خاص لها أن أكثر من 53% من الإيرانيين، البالغ عددهم نحو 80 مليون نسمة، يستعملون مواقع التواصل الاجتماعي والبرامج الخاصة به بشكل يومي، إضافة إلى أن أكثر من 40 مليون شخص داخل إيران يستعملون الهواتف الذكية داخل إيران.
هذا العدد الضخم من المتصفحين والمتعاملين مع مواقع التواصل الاجتماعي دفع السلطات الإيرانية إلى شراء نظم مراقبة متطورة من الصين، قيمتها تتجاوز 4 مليارات دولار، وذلك في ظل أزمة اقتصادية طاحنة تعصف بالبلاد، الأمر الذي يراه محللون محاولة إضافية لتكميم الأفواه
ثم ان نظام المراقبة الذي يدعى “نين” أو (NIN)، من انتاج شركة برمجيات صينية حكومية لم يكشف عنها، ويعمل على حجب وفلترة المواقع والخدمات التي لا يريد نظام الملالي السماح بها للإيرانيين على الإنترنت، إضافة إلى عملية انتقاء المعلومات التي تصل مستخدمي الشبكة داخل إيران وإمكانية فصل أو تعطيل أو إبطاء خدمة الإنترنت عن كل البلاد إذا ما اقتضى الأمر.
الميزة الأخطر لنظام المراقبة (NIN) هو إمكانية الولوج على أي من الحسابات الخاصة بمستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي داخل إيران، وتصفح محتوياتها وإمكانية غلقها ومسحها بشكل دائم.
وأكد محللون لموقع “ذا إنترسبت” الأمريكي أن نظام الملالي أقدم على تلك الخطوة بعد مظاهرات 2009 و2017 والتي انتشرت بشكل كبير عبر مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي قد يعزل ملايين الإيرانيين عن القدرة على التواصل والبحث عبر الإنترنت بشكل عملي؛ بسبب إمكانية تعطيل الشبكة في أي وقت يشعر فيه الملالي بأنهم في خطر.
وفى السياق سلط تقرير لمركز ستراتفور الأمريكي للأبحاث الأمنية والاستراتيجية، الضوء على الانتفاضة الايرانية، وصف ثورة الملالي التى اعتمدت نهج ولاية الفقيه في العام 1979، بالحالة “الزائفة” لكونها أتت بالعديد من التبعات السلبية على الشعب الإيراني، والمنطقة بشكل عام.
ويرى ماثيو باي، كبير المحللين في المركز أن طريقة الملالي في إدارة الأمور داخل وخارج إيران، تسببت في انهيار داخلي على مستويات عدة.
فسعي حكومة طهران الدائم لزعزعة الاستقرار في دول الجوار عبر ميليشياتها واذرعها أدخلت إيران في دوامة من الحروب بالوكالة مع عدد من الدول في المنطقة، إضافة إلى المواجهات المستمرة مع المجتمع الدولي في العديد من القضايا.
ويضيف كبير المحللين في مركز ستراتفور أن الثورة التي تعيشها إيران هي مجرد وهم يحاول الملالي تسويقه، دون تطوير للفكر أو الأهداف، منذ 40 عاما، الأمر الذي دفع الأجيال الجديدة داخل إيران، والتي تشكل أكثر من 60% من التعداد السكاني الإيراني الحالي، لرفض طريقة إدارة الأمور جملة وتفضيلا، سواء في الداخل أو على المستوى الإقليمي والدولي.
ويشير باي إلى أنه حاجة النظام الإيراني لأيديولوجية فكرية مختلفة، فمع وجود الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي أصبح من السهل فضح مزاعم نظام ولاية الفقيه الذي يريد التوسع على حساب جيرانه بل على حساب الإيرانيين أنفسهم.
ثلاث خطوات رئيسية اعتبرها كبير المحللين في مركز ستراتفور تمهد للوصول الى الاستقرار داخل إيران، أولها هو إزاحة نظام الملالي من الحكم.
خاصة بعد أن أثبت النظام الإيراني الحالي مرارا وتكرارا فشله الذريع في تولي الملفات الداخلية شديدة الحساسية، وهي الاقتصاد والحوكمة، إضافة إلى أن مغامرات طهران الإقليمية كبدت الداخل الإيراني خسائر اقتصادية فادحة نتيجة للفساد وللعقوبات الدولية التي ظلت تقصم ظهر الإيرانيين لعقود.
الخطوة الثانية هي إعادة إصلاح ما أفسده الملالي، وذلك عبر عمل إصلاحات داخلية واسعة، من خلال تطهير المؤسسات من احتكار أعضاء الحرس الثوري الإيراني لها، ومحاربة الفساد، والعمل على تدوير الأرباح الحكومية بشكل عملي وشفاف لإعادة إحياء القطاعات الاقتصادية الإيرانية التي نالها الإهمال من الملالي.
وأضاف باي أن تلك الخطوة تشمل أيضا إعادة العمل على تحسين علاقات إيران الخارجية مع دول الجوار، وذلك عبر نبذ التدخل في الشؤون الداخلية، ووقف دعم الحركات الارهابية والمليشيات الطائفية
إضافة إلى الالتزام بالمعايير والمواثيق الدولية وإعادة العلاقات الإيجابية مع المجتمع الدولي، التي ضرب بها الملالي عرض الحائط خلال الـ 40 عاما الماضية.
الخطوة الثالثة هي دفع الشباب داخل إيران لتولي زمام الأمور، فدولة الملالي دولة كهلة، يقوم بتسيير أمورها أشخاص لم يعد لديهم القدرة على مواكبة التطورات في العلاقات الدولية، إضافة إلى أن فكر الملالي بتصدير فكرة “الثورة” قد عفا عليها الزمن، حيث تحتاج إيران الآن إلى دماء جديدة للعمل على إصلاحات داخلية واسعة النطاق.
وأشار باي الى أن هدف الثورة في إيران منذ اليوم الأول كان إزاحة الفساد الاقتصادي الذي تسبب في خلق حالة من “سعار الأسعار” داخل إيران.
وبالرغم من أن ذلك الوضع لم يتغير كثيرا بعد 40 عاما من حكم الملالي، إلا أن موجات التظاهر الأخيرة أسقطت هيبة الملالي وكسرت حاجز الخوف من النظام القمعي في طهران.
وشدد كبير محللي ستراتفور أن إيران ستشهد في الفترة المقبلة تغييرا سياسيا بعد فشل خامنئي في استيعاب طموحات الشعب الإيراني، الأمر الذي قد يشعل صراعا داخليا بين مؤسسات الملالي المختلفة.
الجدير بالذكر أن 60% من الاقتصاد الإيراني تحت تصرف خامنئي، حيث يصرف الجزء الأكبر من ميزانية البلاد على مؤسسات لا فائدة اقتصادية أو إنتاجية ترجى منها، بل تدعو إلى الكراهية والعنف وتنشر إيديولوجيات سامة.
وبحسب منظمات حقوقية إيرانية، يقوم خامنئي بحماية الفاسدين من العقاب، وهو من قضى بسلطته الاستبدادية على الفئة المنتجة في البلاد، وأجبر الشباب على ترك بلادهم، وجعل الاستقرار السياسي في البلاد من المستحيلات، كما أنه يتحرك ضد الشعب المظلوم في سوريا، لذا كان من الطبيعي أن ينتفض الشعب بحثاً عن حقوقه واعتراضاً على ظلم هذا الشخص.