الثقافيـة

(واصدحي ياخواطري) ..عبدالفتاح أبو مدين .. الانموذج لامتلاك أدوات الإبداع المعرفي

جدة ــ البلاد

ليس ثمة أدنى شك في أن من يطالع مؤلفات الأديب عبدالفتاح أبو مدين سيما مؤلفه الأخير المعنون بـ” واصدحي ياخواطري” يشعر بأنه يقف أمام رجل أوتي نواصي اللغة ونعمة العلم وامتلك مفاتيح الفهم، فكتابات الرجل تنقلك إلى أعماق الفيض الزاخر من الأفكار والأطروحات المبتكرة المتجددة،

وتطربك في الوقت ذاته عذوبة لغته إذ تتسم بالقدرة على الإبهار في التشكيل اللغوي، والنسيج الشعري الشجي المرهف الذي يكتسي وهجا وفنا صادقا أخاذا، وقدرة عالية على الإيحاء.

كيف لا والرجل أحد مؤسسي نادي جدة الأدبي وأبرز رؤسائه، افنى زهرة شبابه بين أروقته ورائحة الكتب التي يعشقها وبين توقيعات قراراته على مطبوعات النادي التي أحدثت ضجة ثقافية وأدبية وأوجدت حراكا إبان رئاسته.

الأديب الكبير أبو مدين أخذ على عاتقه رسالة التنوير وإيجاد حراك ثقافي مختلف بكل حب وإخلاص لإيمانه الكامل بأهمية التطوير الثقافي في عروس البحر الأحمر جدة والتي تزخر بتنوع ثقافاتها وأدبائها كونها بوابة للحرمين الشريفين.

وتقول سيرة الرجل الذاتية انه درس المرحلة الابتدائية في مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة، وتخرج بعد عام دراسي وأربعة أشهر، وعين في قيد الأوراق الصادرة في الجمارك منذ 5 /10 /1366 واستقر به المقام في جدة.

اقترن اسم عبد الفتاح أبو مدين بعملين صحفيين في جدة بصحيفة “الأضواء”، وهي أول جريدة تصدر في جدة في العهد السعودي، أصدرها بالاشتراك مع محمد سعيد باعشن في عام 1377هـ، و”الرائد” التي كان مؤسسها ومديرها ورئيس تحريرها، أصدرها في عام 1379هـ/1959 كما أصدر سلسلة كتاب “الأضواء” وهي سلسلة شهرية؛ عن جريدة الأضواء. صدر عنها في عام 1958، ستة كتب خامسها باسم “في النقد الجديد”.

تولى منصب مدير تحرير العدد الأسبوعي بصحيفة “عكاظ” فترة من الزمن. استطاع من خلاله أن يجعل منه ملتقى رحباً رفيع المستوى ، تولى مدير عام الإدارة في مؤسسة “البلاد” للطباعة والنشر. ثم اختير عضوا منتدبا لدار البلاد للطباعة والنشر،من المشاركين في نادي جدة الأدبي منذ تأسيسه عام 1395هـ ثم أصبح رئيسا لهذا النادي بعد وفاة الأديب محمد حسن عواد ـ يرحمه الله ـ عام 1401هـ.

والقارئ المتأمل لأعمال أبو مدين عامة ” واصدحي ياخواطري ” خاصة يجد مؤرخا كبيراً يحدثك حديث العارفين عن التاريخ وأنساب العلماء، بل ويملك الرجل طريقة جعلت أعماله الأدبية متفردة في التعبير والثراء الفكري والفني.
إن العمل الإبداعي ينبني في شكله وفي مضمونه على درجة كبيرة من الإدراك والفهم المتكامل للظاهرة التي يعنى بها، وتلك حال لا تتأتى إلا بالاستئناس بها وبالتفاعل بما تنطوي عليه من ثراء.

ومن هنا يبرز إلى موقع الصدارة أثر البيئة في أدبياته، فالرجل يظهر حباً منقطع النظير للمدينة المنورة تلك الرقعة الجغرافية المسكونة حباً ليس للرجل وحسب بل ولكل مسلم فثمة افتتان كبير يبدو ظاهراً في ” كتاباته عن المدينة المنورة، ليس هذا وحسب بل وغيرته على كل قيمة علمية ومعرفية فرط فيها أهل المدينة دون الاستفادة منها، سيما علمائها الذين رحلوا دون أن يوثق لهم.

ولعل ذلك الارتباط بالبيئة راجع إلى سببين رئيسيين، أولهما تلك الذكريات الدافئة الحميمة التي التصقت بذاكرته منذ سنوات طفولته وصباه الباكر التي نعم فيها بحياة هانئة بين أحبائه وأترابه في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهل من معارف وعلوم شيوخ المسجد النبوي الشريف.
وثانيا: التصاق الرجل الحميم ببيئته واعتزازه بها لانتمائه الصادق لها ولما رأى من تناقضات لا تماثل طبعه وذوقه في بيئات أخرى.

ويبدو أثر البيئة بينا في أسلوبه ومكنه ذلك من ارسال أروع الأمثال المفعمة بالشفافية والقدرة على تجسيد الاستعارة، والاستعارة كما قال أرسطو هي دليل العبقرية.

ونقرأ في افكار ابو مدين من خلال مؤلفه ” واصدحي ياخواطري” ولعه بالتاريخ ومعرفته ببلدان العرب سيما منطقة الشمال الإفريقي والأندلس، فالرجل حينما يحدثك عن شمال إفريقيا يرسم لك صورة تنقلك بين العصور.

لقد دون أبو مدين في كتابه ” واصدحي ياخواطري” الكثير من مآثر الشيخ محمد الحافظ بن موسى، وحمل بشدة معاتبا أهل المدينة كونهم قصروا في الاهتمام بإرثه العلمي والمعرفي، في مقابل ذلك أولى ابومدين الحفل الذي اقامه نادي جدة الثقافي تكريماً للشيخ عظيم اهتمامه، إذ لم يبخل على المناسبة فانفق في سبيل ذلك ما يزيد عن ربع المؤلف، وصفاً وعرضاً بصورة تشابه إلى حد كبير النقل المباشر للحدث.

كما ضم الكتاب نفسه موضوعات كتبت بأسلوب سردي جميل عن قيادات إسلامية وعلمية وفكرية وأدبية أخرى من أمثال: عقبة بن نافع، وعمر بن الجموح، ونسيبة بنت كعب، وعبدالرحمن الغافقي، وربيعة بن مكدم، وعكرمة بن ابي جهل، وعمر المختار، وعبدالرازق بن حمادوش الجزائري، وابن خلدون، وابن زيدون، والبيروني، والفارابي، وابن الهيثم، وصلاح الدين الايوبي، والخازن، والبتاني، وعيسى العوام، وعبدالله بن ابي الشيص، ثم توقف استاذنا كثيراً ، عند محطة العقاد، ليغادرها إلى محطة “الحكيم” وكواليس الأدباء.

وضمن الأديب الكبير في مؤلفه “واصدحي ياخواطري” قصيدة ” يا ليل الصب متى غده؟” لعلي الحصري القيراوني، بل لم يكتف بذلك فقد جمع بأسلوب جزيل كلا من عراضها من الشعراء والأدباء ، امثال ابو الحسن الحصري، وابن الزبيدية المقرئ، وابو الفوارس حيص بيص، ونجم الدين القمراوي، وابن مليك، والشيخ عبدالغني النابلسي .

وحوت الفصول الأخيرة من مؤلف “واصدحي ياخواطري” اسفار استاذنا ابو مدين الى كل من بريطانيا وايطاليا، فقد برع في رؤية رحلتيه هاتين بصورة تدعم ما ذهبنا إليه في افتتاحية الموضوع أعلاه، عن القدرة الخارقة التي يملكها في الوصف والتشبيه،إذ لم يترك شاردة ولا واردة إلا وأحصاها، تحت عنوانين جميلين، الأول، “من أيام الإجازة” والثاني “الحياة …سفر”.

وتناول الأديب أبو مدين في مؤلف “واصدحي ياخواطري” تاريخ الصحافة السعودية بحديث العارفين، كيف لا وقد افنى زهرة شبابه بين الأحبار والأوراق، ثم ختم مؤلفه بالحديث عن الأدب في المملكة العربية السعودية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *