رائد جبر
انتظرت موسكو طويلا جدا حتى أدركت أن ليبيا شرعت فعليا في تدشين مرحلة ما بعد القذافي، وعندها فقط أدركت أن عليها أن تلتحق بالعربة الأخيرة من القطار.
كان لا بد لبيان الاعتراف الروسي بالمجلس الانتقالي الليبي الذي صدر قبل ساعات من توجه السيناتور ميخائيل مارغيلوف إلى باريس للمشاركة في مؤتمر \"أصدقاء ليبيا\" أن يثير أسئلة كثيرة، أبرزها: لماذا تصل روسيا متأخرة عن الحدث بخطوة أو خطوتين في كل مرة؟ لم يدرك صانعو السياسة الروس أن بلادهم سارت بعكس منطق التاريخ عندما عجزت عن إدراك عمق التغييرات الجارية في المنطقة العربية، وعندما تماشت مع أنظمة قمعية وتجاهلت الحراك الشعبي الواسع.بدت موسكو متعلقة بحبال الماضي بينما المنطقة تدشن بحماسة شعبية لا سابق لها، أولى خطواتها نحو المستقبل.ولم يكن غريبا أن تفسر الأنظمة مواقف موسكو التي راوحت في مربع \"رفض التدخل الخارجي\" باعتبارها دعما \"دوليا\" لزيادة القمع ضد \"العصابات المسلحة\" ويكفي أن شوارع دمشق مثلا، غطيت بلافتات تحمل عبارات الشكر للموقف الروسي.الغريب أن موسكو لم تحاول أن تبذل جهدا جديا لفهم ما يدور في المنطقة على الرغم من مرور ثمانية شهور منذ أن انطلقت شرارة الثورات العربية في تونس، وعلى الرغم من المنحى التصاعدي الواضح للأحداث. والسؤال البسيط الذي لا يجد جوابا: ألم يقم جيش الدبلوماسيين الروس المنتشر في أنحاء العالم برصد آلاف التعليقات والتحليلات في الصحف العربية والعالمية التي وضعت روسيا خارج مسار الأحداث، ألم يدفع ذلك أحدا للتساؤل لماذا انقض العرب \"أصدقاء روسيا التاريخيين\" بهذا الهجوم العنيف على سياستها؟ ألم يحمل مشهد الأعلام الروسية وهي تحترق في الشوارع والمدن العربية صناع السياسة الروس على التأمل للحظات؟ يكفي أن نتذكر ما جرى في الولايات المتحدة بعد اعتداءات أيلول (سبتمبر) في العام 2011 التي تمر في هذه الأيام ذكراها العاشرة. بعد أن انفض غبار الإرهاب مباشرة، طرح كثير من الأميركيين سؤالا موجعا: لماذا يكرهوننا هكذا؟ربما يكون على روسيا أن تسأل اليوم: لماذا لم يتفهم الشعب العربي سياساتنا؟ أو بالأصح سيكون عليها أن تطرح السؤال بشكل مقلوب ليغدو: لماذا لم نكن قادرين على فهم ما يجري في ذلك الجزء من العالم؟
والمشكلة لا تنحصر عند خبراء السياسة المحنطين الذين أتحفوا المتابع العربي بتحليلات عبقرية تبدأ من أن الثورات في شمال أفريقيا والشرق الأوسط تهدف إلى \"تطويق روسيا\" و\"إخراجها من البحر الأبيض المتوسط\" ولا تنتهي عند التخويف من حتمية قيام الإمارات الإسلامية التي ستشعل حروبا لا تنتهي.
هذا المستوى من السطحية في تناول الحدث لم يكن له مثيل في بلدان أخرى. ومثل ذلك مسارعة البعض لتأسيس لجان لدعم \"بعض\" شعوب المنطقة. ولم يفهم أحد لماذا تم اختيار شعوب بعينها ولم تقم لجان مماثلة لدعم الشعوب الأخرى المكوية بنيران الظلم، لكن الجواب سرعان ما اتضح عندما تبين أن اللجان تقوم لدعم نظام محدد أو أكثر ضد شعبه.ولم ير ممثلو تلك اللجان في زيارات \"ميدانية\" نظمت على عجل إلى المنطقة إلا نظرية \"المؤامرة الخارجية\" التي رسموها بأنفسهم قبل أن تحط طائرتهم على الأرض. لا يستحق السؤال عن السبب الذي يجعل الزوار الروس لا يرون ما رآه الآخرون من فظائع ارتكبت ضد المحتجين المدنيين جوابا. فهم يرون ما يريدون، لأن مسار الأحداث لا يعنيهم.
