ملامح صبح

مقارنة بين جيلين(1/2): الشاعر الشعبي في زمن( اللال) وزمن (الانترنت)

رؤية – عواض العصيمي

الشاعر الشعبي في زمن “اللال – المظماة “، كان غير معني بتكريس صوته في الذاكرة ، أو بالأحرى ما كان يضع دعاية مدفوعة الثمن لتتناقل قصائده الأفواه والأجيال بل كان يعنى بالشعر والموقف فحسب . ولأنه كان كذلك، فقد تكفلت القصيدة بإبقاء ذكر الشاعر حياً بعد مماته سنين مديدة .كانت القصيدة شديدة القرب من بيئتها ولصيقة للغاية بطبيعة الزمن والمجتمع والناس الذين عاصروها، بل تخرج إلى العلن متشبهة بهم، متشكلة بزيهم، ناطقة أمينة بهمومهم وشجونهم في شتى أحوالهم في الحرب والسلم وفي أوقات الرخاء والشدة .

لذلك ليس غريبا أن نلقى في قصائد الأقدمين رائحة الربيع لأنها قيلت في وقت الربيع، أو نلقى فيها رائحة خصام إذا كانت وليدة لحظة انفعالية طغت فيها نفخة العنف. أما في الحب، فكانت القصيدة تخرق الجلد وتكسر الضلع من فرط شفافيتها العاطفية ومن شدة حزنها إذا لزم الأمر. وجاء وقت استغنى فيه الشاعر عن الراوي والذاكرة، وذلك حين اتخذ من الورقة راوية لا تزوغ بها الأوهام عن صراط النص مهما تعاقبت عليها الأيام.

تفشت الورقة في حفظ الموروث كمادة جديدة ما لبثت أن أصبحت أهم وسيلة في عصرها الذهبي لتوطين القصيدة ولم شتاتها وتخليصها مما كانت تعانيه الذاكرة عند الرواة من وهن ولبس وتغليب ظن على ظن وترجيح رواية على أخرى .

فالورقة تحتفظ بالنص مباشرة بعد خروجه من فم الشاعر أو بعد تلقينها إياه من فم الراوي، فتصح عندئذٍ سلامة النسب إلى القائل الأصلي لدى الأول، وترسو عند الثاني يقينية الرواية.

لكن القصيدة التي أصبحت مدونة في كتاب، فقدت مع سيولة الزمن خاصيتها التي كانت تميزها كقصيدة برية طليقة متوحشة تنتقل من فم إلى فم ومن راو إلى راو،. لقد استحالت كلمات ولغة فحسب.

استحالت قصيدة بصرية تقرأ وتنسخ كشاهد على الماضي والزمن الذي أفل.

أصبحت العلاقة بالنص عبر المكتوب وليس من خلال الطقوس الأولى التي تتوهج فيها القصيدة على فم الشاعر أو بصوت الراوي. بوجود النص في الفضاء الورقي انتهى دور الراوي وانطمست هيئته السحرية إلى الأبد، وحل محلها الديوان. بذلك صارت القصيدة أكثر نأياً عن الصحراء وعوالمها الساحرة وطقوس نصوصها الشفاهية وانفعالات عناصرها الطافحة بالرومانسية والغموض. عبر الكتابة، دخلت القصيدة البدوية في طور القوانين المدنية،

وتحديداً قانون المسموح والممنوع حيث يتشكل الرقيب بقرار من الدولة، أو من المجتمع ذي الحساسية الثقافية المسكونة بالمنع والحجب، ذلك المجتمع الذي كان جزءٌ كبيرٌ منه ضمن نسق ثقافي مختلف لما كان في الصحراء، وهو المجتمع البدوي في الأصل، لكنه بعد أن انتقل إلى المدينة كان لابد أن يقبل بنظامها المتشكل من فكرها السياسي، ورؤيتها الثقافية وفلسفتها الإعلامية في تقدير الأمور وتنظيم شؤون الحياة، فغدا بعض ما كان مسموحاً عنده في الماضي، ممنوعاً عليه في الحاضر، وتسبب ذلك في الوقوف بين الصحراء كعالم مفتوح على القول بكافة صيغه وتناقضاته من جهة، وحكم القارئ على النص من جهة أخرى.

جعل الرقيب من نفسه البوابة الوحيدة التي تلج منها القصيدة إلى الآخر. أصبح الرقيب هو النص الذي على هديه تكتب النصوص المتوطنة، أما النص الأساس فكان الذاكرة البعيدة أو الرسم الباهت المحفوظ تحت مسمى أدب أو موروث. من هنا كان للقصيدة المتوطنة أن تفقد علاقتها بالصحراء، تفقد علاقتها بالزمان والمكان الأولين،

وتقترب كثيراً من عالم المدينة الذي لا يشبهها في الأصل لكنه صار محيطها بالرغم من أنه لم يدخلها تماماً، إذ بقيت القصيدة المتوطنة على مسافة منه وفي الوقت نفسه لم تستطع الارتداد إلى عالمها الأول، فالبيئة تغيرت، والتلقي تغير، ومعايشة الواقع اختلفت.

هل يعني ذلك خيانة ما لضمير الشاعر الأول أم أن الزمن في مفهومه الجديد من خلال مؤسسات المجتمع المعاصر وثقافة المسموح والممنوع تكفل بإزاحة الشاعر الأول أو تكفل بقتله في الرمال وتشويه ملامحه بواسطة شعراء جدد يقولون قصائدهم بناء على ما لقنوا من مفهوم موجه، أو لنقل مسيس عن الشعر والثقافة الشعبية الأصلية التي كان سيدها الشاعر؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *