أرشيف صحيفة البلاد

معالم وذكريات ( 4 ).. السقا .. في جدة

د . زامل عبدالله شعـراوي

عندما تستيقظ حارات ” جدة التاريخية ” العتيقة كحلم كمطر يتساقط على رفيف الروح وفي بكور المدينة الحالمة وصباحها الذي يغسل وجهها البحري الفاتن وعلى صيحات اصحاب الحرف والمهن التي اشتهرت بها حارات ” جدة التاريخية ” .
كان الاوائل يعيشون على البساطة دون ان يفكروا بشيء يقلق انسجام حياتهم وهوئها الآسر .
حيث كانت الشعوب والمجتمعات تؤمن حاجتها الاساسية والضرورية من محيطها الطبيعي .. في الوقت نفسه كانت توجد البدائل والوسائل لتحسينها وتطويرها والانتفاع بها بشكل افضل.
فعلى سبيل المثال كان الناس يشربون الماء من ” عيون المياه ” والتي لايخلو منها اي تجمع بشري فهي مصدر استمراريه وسر استقرارها وحضارتها .. فابتكروا الاواني الفخارية لحفظ الماء وتصفيته وتبريده ، وتعتبر مهنة “السقا” مهنة ممزوج بنكهة عبق الحياة البكر .. تذكرنا بتاريخ المياه في ” جدة “.
و يبدأ دور “السقا” بنقل الماء في أواني مصنوعة من الحديد ويحملها على ظهره أو على ظهر دابة ويتجول في الحارات ليتزود الأهالي بالماء وبقوم بتفريغ في الأواني الفخارية الكبيرة الذي تدعى بـ”الحب” على غرار الخزان المعدني إلا أن الأول يختلف عنه لاكتساب الماء الذي يحفظ فيه شيئاً من البرودة لتبخر الماء من بين مساماته فيلامس الهواء فيترطب.. وحالما ينتهي (السقا) من ذلك يرسم خطاً على الجدار الذي يقع خلف باب الدار ليحاسب الزبون عن مجموع الخطوط التي ترمز الى عدد “تنك” المياه التي أفرغها في نهاية كل أسبوع أو شهر حسب الاتفاق مع صاحب البيت ، ويقوم اهل الدار بوضع مادة الشب أو الفحم في ماء ” الحب ” ليشكل طبقة ثقيلة تعمل على تنقيته من الشوائب والرواسب الطينية العالقة فيه التي تتركز في القاع ليكون صافياً زلالاً يشربون منه.. ولمنع دخول الاتربة يوضع فوقه غطاء مصنوع من خوص سعف النخيل أو القش.. اما ” الحب ” فيوضع فوق حامل من الخشب يشبه القفص وتحته اناء من الفخار للاحتفاظ بقطرات المياه التي تسقط فيه لاستعماله في صنع الشاي.
وكما كــــــانوا يستعملون المياه في غسل الاواني والحاجات الاخرى ، فكان “السقــــــا ” يأتي الــــى كل البيوت ليزودها بالماء ، يجلب لها الماء من البازان .
وكان يقوم بعملية رش الاسواق والازقة الترابية بغية هدئة الارض من الغبار المثار منها وتبريدها في فصل الصيف كما يعمل على توزيع الماء للعطشى من المارة مجاناً.. وتدر حرفته عليه ربحاً وفيراً، وكان “السقا” معروف بأنه على صلة بجميع أهالي الحارة ويعرفهم فرداً فرداً .
و :بعد عقد الاربعينيات بدأت مهنة “السقا” بالتلاشي ومن ثم الزوال عندما بدأت الدولة بإقامة محطات تصفية المياه ومد شبكات الانابيب الى البيوت ، اذ تم الاستغناء عن الاواني الفخارية تقريباً بعد ظهور “صندوق الثلج” وهو عبارة عن صندوق من الخشب ذو غطاء من الاعلى في داخله وعاء مستطيل معمول من رقائق الالمنيوم لخزن الماء ويوضع ربع أو نصف قالب “لوح” من الثلج بجانبه ليكتسب البرودة.. ويكون موصولاً بحنفية لاخذ الماء البارد منها عند الحاجة.. وكذلك وضع الخضار أو الفاكهة في داخل الصندوق لكي تبقى طرية كما هو في الثلاجة الكهربائية التي نستعملها حالياً.
وكان هناك نوعان من السقائين، النوع الأول الذي كان يحمل الماء من البازان بواسطة دلوين تشدهما قطعة قوية من الخشب تستقر على الكتفين، وكانت مهمة هؤلاء السقائين ملء أواني المنازل وكان لكل سقاء من هؤلاء السقائين عدد من البيوت مقابل أجور شهرية أو أسبوعية ، وأغلب هؤلاء يعملون في المساء عادة لأن عملهم يتكرر باستمرار ويعانون كثيراً من الجهد المبذول حيث يتحاشون حرارة النهار في نقل المياه ومن أشهرهم العم ” زمريق ” .
والنوع الثاني هم السقاؤون الذين يجوبون الأسواق والشوارع حاملين قربهم المزينة بالكثير من الوسائل الجمالية والمنادين على بضاعتهم من الماء أو العصائر أو عرق السوس، وعادة مايكون الماء ” مهيلاً ” بنكهة الهيل وفيه حلاوة قليلة جداً، وهناك بعض السقائين يبيعون الماء الحلو المهيل ولا يعرف سر حلاوة الماء الذي يبيعونه وكيف أنهم يستخدمون وصفة معينة في إضفاء مذاق الحلو على الماء حيث انها سر لا يعرفها غيرهم.
همسة :
جدة .. ” عروس البحر ”
عبق التاريخ وأصالة الماضي العريق .
@zamelshaarawi