محليات

لُعَب الأطفال الحديثة

محمد أكرم الندوي

 

قالوا: إنك دائم النقد للحضارة الحديثة نقدًا لاذعًا ومتواصل الطعن فيها في غير هوادة ولا لين، صافحًا عما فيها من فضل وغنى وإيجابيات؟ قلت: لست كارها أو ماقتا لحضارة دون حضارة، فما هي الإيجابيات التي ألفيتموني عاديا عليها ظالما؟ قالوا: ما رأيناك مثلا تعترف بالتقدم الذي حققه عصرنا في مجال تربية الأطفال جاعلا إياها فنا متطورا راقيا، حتى إن لعب الأطفال الحديثة تتضمن من نواحي التنمية العقلية والجوانب التوعوية ما يبعثنا على الدهشة والعجب، قلت: اعلموا أن تنشئة الأطفال وتربيتهم مهمة ذات شأن جسيم، وعملية حاملةُ قدرٍ جليل، فهم مستقبلنا ومعقد آمالنا، وإن أي عثرة أو غفلة في توجيههم وتسديدهم تؤدي إلى عواقب وخيمة قد لا يمكن تداركها.
قالوا: علمنا قيمة هذا الموضوع وبالغَ عظَمته، فنرى أن نستنجد بما حققته الحضارة الحديثة من مكاسب وأنجزته من مغانم في جانب تربية الناشئة، قلت: لم تعد منجزاتها وتطبيقاتها خافية خاصة في الوسائل والآلات، وحبَّذا لو انتهى الأمر إلى هذا الحد، ولكن تغلَّب على استغلالها النظام الاجتماعي الاقتصادي الذي لايهمه إلا توفير أرباح الرأسماليين ومضاعفة عوائدهم في كل اختراع طريف واكتشاف مبتكر، ولو كان ذلك على حساب البشرية ومستقبلها وقيمها ومثلها، بل إن كل مستحدث مميَّز في عالم التكنولوجيا لا دافع وراءه إلا الثمرات المادية والتحسينات الشكلية السطحية.
قالوا: ماذا تعني بكونها على حساب البشرية؟ قلت: قد قصصت عليكم في مقال سابق أن الله تعالى خلق جسم الإنسان وعقله في كبد مطوَّرين للتأقلم مع الجوع والمشقة، فلو أن الحضارة الحديثة يمَّمت تربية الأطفال عازمة عليها في جد وإخلاص لقامت بدراسة فطرة الإنسان، وطورت اللُّعَب تطويرا يعين على تنمية المواهب الفطرية والبِنَى الخَلْقية والهيئات الظاهرة والباطنة، مراعية توافقها مع العالم الطبيعي، ونشوء
ها على الجهد والتضحيات في سبيل تحقيق الإنجازات في الحياة، ولكن هذا النظام لا يهمه إلا النفعية فيجرد بعض الوظائف والممارسات والعمليات من سياقاتها وواقعاتها الملموسة، مركزا على جانب المتعة والترفيه، وموفِّرا فرصا للسمنة المفرطة والتهريبة واللتين لم يفطر عليهما الجسم والعقل، فلا بد أن يحصلا على الدعم الخارجي للتكيف مع المشكلتين ومواجهتهما.
قالوا: إن الألعاب الحديثة تساند التنمية الفطرية في تنسيق أتم وأروع، قلت: إنه تنظيم صناعي متكلف ينقصه التنوع الذي يحتاج إليه الأطفال في ذلك الوقت المبكر من نشأتهم لإبراز قدراتهم وصلاحياتهم المختلفة، تنسق الألعاب المدرسية بتوزيع الأطفال في مجموعات منفصلة مقسمين على الأسنان والمستويات، في أوقات معينة محددة حسب قوانين للألعاب وسنن مقررة مسبقا، فالتنوع فيها في التعامل مع الكبار والصغار، وتضبيط الأوضاع المختلفة، والتأقلم الاجتماعي والمناخي والبيئي منخفض إلى حد أدنى ومنحط للغاية.
قالوا: ولكن ألعاب الفيديو أكثر تطورا وأحسن مرونة، قلت: هذا ما يروجه لها المروجون منفقين أموالا هائلة في الإعلانات التجارية المموهة، تم تطويرها كبديل للألعاب المدرسية، ويقضي الأطفال ساعات طويلة في لعب فيديو المبرمجة، وحدانا ومفردين أحيانا، وفي كتل ومجموعات صغيرة للغاية أخرى، غير ظاهرين في العراء والهواء ولا متعرضين للمناخ الطبيعي والأجواء، مع خفة جسدية ضئيلة ونشاط بدني قليل جدا وعدم رياضة ولا سعي، في قدر كبير من الاستيعاب والانهماك المكثف في اللعب حسب انكشافه وبسطه التدريجي، لا يتعلمون كيف يتعاملون مع الآخرين، ولا كيف يتأقلمون مع الضغوط البدنية والعاطفية، ينتهي هذا النوع من اللعب ولم يستفد الأطفال إلا التحريك الرشيق الحثيث للأصابع.
قالوا: فهل تود أن يجانب الأطفال الألعاب ويقاطعوها مقاطعة؟ قلت: إن لم يشاركوا في الألعاب إطلاقا أصيبوا بنقيصة في تربيتهم وإعاقة لقواهم ومكامنهم، ولكن الألعاب الحديثة ألحقت بتربيتهم أضرارا فادحة ومفاسد بالغة وأنشأت فيهم سلبيات ضعَّفت من تكوين شخصيتهم وتفعيل مؤهلاتهم، الأمر الذي أدى إلى تفشي القلق والضغط وقلة التركيز وما إلى ذلك من الأوبئة والأوصاب البدنية والعقلية والنفسية والروحية بين طلاب المدارس الابتدائية والثانوية.
قالوا: فهل كانت الألعاب التقليدية سليمة من هذه العوادي؟ قلت: نعم، وكانت مُمِدة في نمو الطفل الجسمي والعقلي والنفسي إمدادا ينسجم مع طينته ويلائم غرائزه، فقد كان الأطفال، قبل خمسين سنة تقريبا بل وإلى الآن في كثير من أجزاء العالم، يخرجون، وهم في أحياء سكنية صغيرة، من بيوتهم من دون إشراف عليهم أو نظارة، يزاولون الألعاب غير المنظمة ولا المنسقة، والتي يتم تفاوض قوانينها وسننها يوميا، ويساهم فيها المشاركون من ذوي أعمار ومستويات مختلفة، معرضين للمناخ الطبيعي، والجو الحار والبارد، والشمس والمطر، يساعد الكبار منهم الصغار راعين إياهم ومشركيهم في الألعاب، يصاب بعضهم بالجروح فيتعاونون بالنجدة والإسعاف، ويغضب آخرون ويثورون فيتقدم غيرهم يهدِّئونهم ويسكّنونهم، ومنهم من يلح أن يفوز ويتغلب فيتعلم كيف يخسر ويرتكس، ومنهم من يقود مستتبِعًا غيره فإذا به يضطر إلى أن يَتْبع ويُساق، وما أكثر ما تتغير هذه القوانين والسنن والأوضاع، فيمارس الأطفال تلك الألعاب في بيئة طبيعية، ويتعلمون التعديلات والتضبيطات البدنية والنفسية والاجتماعية والخلقية.
قالوا: فلعل ذلك يمهد السبيل إلى تنمية الكفاءات الإنسانية الفطرية في الطفل والرشد الذي طالما حدثتنا عنه، قلت: أحسنتم، وهذا هو المطلوب في تربية الطفل أن ينشأ رشيدا، ويتوجه إلى ربه حنيفا، فيحيا مسلما له حميدا ويموت سعيدا.
• أوكسفورد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *