جدة ــ وكالات
بعد مرور عام على قرارات الدول الداعية إلى مكافحة الإرهاب بمقاطعة قطر، بسبب سياستها المخالفة للمسار العربي، وتورطها في دعم وتمويل التنظيمات الإرهابية، ما زالت الدوحة حتى الآن في حرب إعلامية، سعيا منها للتشويش على خسائر سياسية واقتصادية ضربت أركان نظام الحمدين خلال العام الأول من المقاطعة.
وكعادتها التي ليس لها بديل عند نظام الحمدين نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكي مقالا لوزير خارجية قطر محمد بن عبد الرحمن آل ثاني يعج بالمغالطات والأكاذيب يعلن فيه الانتصار على دول المقاطعة، وهو نهج حازت فيه الدوحة قصب السبق منذ انقلاب حمد بن خليفة على أبيه، في تسعينيات القرن الماضي، وتأسيس “نظام الحمدين” الذي ما يزال يحكم الدولة الصغيرة.
العارفون بالسياسة في المنطقة يقرأون مقال محمد بن عبدالرحمن، كمحاولة للهروب إلى الأمام، من استحقاقات سنة المقاطعة الأولى، التي خنقت الدوحة في مراكز قوتها الناعمة والصلبة على حد سواء، وجعلتها ترتمي علنا في أحضان جماعات موسومة بالإرهاب ودول متورطة في دعمه وممارسته مثل إيران.
فالمقال الجديد يتضمن خطابين الأول موجه أساسا إلى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وخاصة وزير خارجيته الجديد، مايك بومبيو، حيث يحاول الوزير القطري أن يلعب دور الضحية، فيظهر الدوحة كأنها تتعرض لـ”حصار” ظالم، من قبل الدول المقاطعة لها، في وقت يدرك العالم أن الدول الأربع لم تفرض أي حصار على قطر، بل استخدمت حقها المشروع في وقف التعامل مع نظام شعرت أنه أًصبح يهدد الأمن الإقليمي، وهو شعور لا ينفيه محمد بن عبدالرحمن، في مقاله وإن زعم أن سببه استقلالية سياسة الدوحة التي اتضح زيفها.
وكانت الدول المقاطعة لقطر صريحة منذ البداية في أنها لا تستهدف إلحاق الضرر بالدوحة، وأن الدافع الحقيقي للقرار هو تجنب الثمن الكبير التي تدفعه المنطقة من استقرارها وأمنها بفعل سياسات الدوحة العدائية تجاه الجيران، التي لم يعد بإمكانها احتواؤها، ما جعلهم يبحثون عن صيغة جديدة للتعامل معها، قوامها أن كل بلد يمكن أن يعيش بالطريقة التي يريد، وأن الصداقة بين الدول تبنى على وحدة التصورات، وليس على المزايدات، “فلا إكراه في العلاقات الدولية”.
ويحاول ابن عبدالرحمن من الخلال المقال الذي اختار لنشره صحيفة نيويورك تايمز، أن يخطب ود الساسة الأمريكيين، من أجل أن يبحثوا عن مخرج يوقف النزيف الاقتصادي الذي تعاني منه ثروة بلاده، والذي بدأت معالمه تخرج للعلن، إذ لم يعد بالإمكان التكتم عليه، في ظل الخسائر المتلاحقة، والسحوبات المستمرة من احتياطي قطر النقدي في الصناديق السيادية.
ورغم كل الجهود التي يبذلها الساسة القطريون، إلا أن الإدارة الأمريكية الحالية تتعامل بحساسية كبيرة مع دعم الإرهاب، وهي التهمة الرئيسية التي عجزت قطر على مدى سنة من المراوغة أن تقدم أجوبة صريحة تبرئ ساحتها منها، وبالتالي لن تجد آذانا مصغية في واشنطن، خاصة وأن ترامب كان صريحا منذ بداية الأزمة في أن الدوحة لها تاريخ طويل من دعم الإرهاب يجب أن يتوقف.
الخطاب الثاني الذي حاول الوزير القطري تمريره هو خطاب “النصر” المزعوم، الموجه للداخل في المقام الأول، حيث يحاول أن يظهر نظام الحمدين، وكأنه انتصر على كل الإجراءات التي اتخذت ضده، في الوقت الذي تشير كل التقارير إلى أنه تلقى ضربات موجعة.
خطاب النصر الوهمي هذا يعول عليه حكام الدوحة في إعادة الالتفاف الشعبي حولهم، بعد أن تصدعت الجبهة الداخلية بفعل سياسات الإقصاء والتهميش المتبعة في الداخل، واعتماد النظام على مرتزقة من بلدان مختلفة، في إدارة شؤون البلاد وتنفيذ مؤامراته الخاصة.
ويعتبر طيف واسع من القطريين أن بلادهم أصبحت مختطفة من قبل نظام الحمدين والجماعات الإرهابية التي يعتمد عليها في رسم وتنفيذ مخططاته، ما يجعل مقال محمد بن عبدالرحمن عن النصر بالنسبة لهم مجرد حلقة من سياسة أنهكت اقتصادهم وتنذر بتقويض أركان دولتهم وتمزيق لحمتهم الداخلية، وعزلهم عن محيطهم الثقافي والحضاري.
المثير للسخرية أكثر في مقال الوزير محمد بن عبدالرحمن بحسب المتابعين هو حديثه عن ضرورة البحث عن حل للأزمات التي تشهدها المنطقة، من اليمن إلى ليبيا مرورا بسوريا والعراق، وكأن الدوحة لم تلعب دورا رئيسيا مشهودا في تأجيج الفوضى بالمنطقة، من خلال تحريض قناة الجزيرة وأخواتها من المنصات الإعلامية الممولة قطريا، ومن خلال الدعم المباشر والسخي للجماعات المتطرفة.
الادعاءات التي أوردها محمد بن عبدالرحمن بشقيها، لا تستقيم أمام التقارير التي تناولت كشف حساب السنة الأولى من المقاطعة، حيث أكدت بالأرقام والبراهين فشل قطر في استيعاب الإجراءات المتخذة ضد نظامها، ومحدودية تأثير الدعم الذي تلقته من حلفائها الإقليميين مثل إيران
الفشل القطري ظهر على المستوى الاقتصادي في فرار رؤوس الأموال الأجنبية، واعتماد الدوحة بشكل واسع على أدوات الاستدانة العمومية، وإضافة إجراءات التقشف التي شملت مؤسسات حيوية، بحسب التقارير والتقديرات المتخصصة، المستندة إلى معطيات هيئات التصنيف، والمؤسسات النقدية الدولية، التي تشير إلى أن خسائر السوق المالي القطري وصلت إلى 10% (15 بليون دولار) خلال الأسابيع الأربعة الأولى للأزمة فقط.
وتؤكد التقديرات أن إغلاق الحدود القطرية كلف الدولة خسائر بحوالي 85 مليار دولار، موزعة على عدة قطاعات، منها النقل الجوي والبحري، إضافة إلى قطاع السياحة الذي خسر حوالي 600 مليون دولار حتى نهاية عام 2017.
وفي ظل الأزمة المستمرة تشير التقارير المتواترة إلى أن الدوحة سحبت حوالي 56 مليار دولار من أرصدتها الخارجية، لحل أزمة العملة الأمريكية في المصارف المحلية، ما تطلب تسييل عدد من الاستثمارات.
وشهد الاقتصاد القطري بعد عام من المقاطعة إقدام المقيمين وغير المقيمين على نقل ودائع مالية بقيمة 40 مليار دولار إلى الخارج، ما دفع الحكومة لتسييل استثمارات (سندات) أجنبية، بقيمة 18.5 مليار دولار، وبيعها سندات وصكوك بقيمة 15.3 مليار دولار، وتسييل استثمارات من الصندوق السيادي بقيمة 20 مليار دولار، وبلوغ الدين العام الداخلي والخارجي 109 مليارات دولار، فيما تسببت المقاطعة في تراجع صناعة السياحة بنسبة 37% إلى 690 ألف سائح، كل ذلك دفع مؤسسات التصنيف الائتماني لخفص تصنيف قطر.
المحصلة المرعبة التي تجاهلها محمد بن عبدالرحمن في مقاله بصحيفة نيويورك تايمز، هي التراجع الفظيع في معدل نمو الناتج المحلي، الذي يقدر 60% مقارنه بعام 2016؛ جراء هروب رؤوس الأموال والودائع وتراجع عوائد الاستثمارات.
ويبدو أن الخسائر على المستوى السياسي لم تكن أقل، حيث فشل النظام القطري في إدارة الأزمة، بشكل واضح للعيان، فاشتدت العزلة حوله، وكثرت الشواهد التي تثبت مصداقية شُبه الإرهاب المثارة ضده، الأمر الذي دفعه إلى توظيف شركات دعاية عامة لتلميع صورته مقابل مبالغ مالية ضخمة تستنزف بدورها خزينة البلاد.